عندما تصطدم بالوقائع، وتشهد حدوث حروب جديدة، فتبدد الأحلام المستولية على الأذهان، وتثير ضغائن جديدة بين الأمم. . .
نستطيع أن نجد خير مثال لذلك فيما كتبه وقاله الشاعر الفرنسي العظيم (فيكتور هوجو). انجذب هذا الشاعر إلى فكرة توحيد الأوطان، ونشر ألوية السلم على العالم. فاشترك في مؤتمرات السلم، وألقى في بعضها بعض الخطب، وأرسل إلى بعضها بعض الرسائل؛ وفي كل ذلك أظهر نزوعاً شديداً نحو السلم العام، وإيماناً عميقاً في أمر توحيد الأوطان. . وتخيل في إحدى خطبه العهد الذي ستتحد فيه الدول الأوربية بأجمعها، والعهد الذي ستتصافح فيه الولايات المتحدة الأوربية (مع الولايات المتحدة الأمريكية) من وراء البحار، وتوحد أعمالها لخير البشر العام. . . كما حلم في العهد الذي ستنتقل فيه المدافع إلى المتاحف، وستترك القذائف محلها إلى أوراق التصويت في ندوة عالمية، تكون السيادة فيها للمناقشة العلمية والرأي الحر. . . وتحت تأثير هذه الأحلام وجه الشاعر دعوة حارة لإزالة الحدود والفوارق من بين الأمم، قائلاً: إن رأس البلاء هو الحدود؛ لأن مفهوم الحدود يتضمن المخفر، والمخفر يتطلب الخفير، والخفير يستوجب الجيش، والجيش يدعو إلى الحرب. . . فلنحذف الحدود. . لكي نرى ألوية السلم سائدة على العالم، وروح الأخوة منتشرة بين البشر. . .
ومن غريب الصدف أن هوجو كان قد أرسل هذا البيان إلى مؤتمر السلم الذي انعقد في لندن سنة ١٨٦٩، أي قبل نشوب حرب السبعين بسنة واحدة فقط! وما كادت الحرب تنشب بين فرنسا وألمانيا، حتى ترك الشاعر هذه الأحلام جانباً وأخذ يبدع سلسلة أشعار حماسية، تتأجج فيها روح وطنية ثائرة. . .
إن هذا الشاعر لم يكن من الشواذ في هذا الباب. بل ظهر له أمثال كثيرون في كثير من البلاد. . . فعدد غير قليل من المفكرين انجذبوا مدة من الزمن إلى فكرة توحيد الأوطان، ثم عادوا إلى النزعة الوطنية والقومية تحت تأثير الوقائع والحادثات. .
لا ننكر أن بعضهم ظل متمسكاً بهذه الفكرة طول حياته، كما فعل (تولستوي) الشهير. . . فإنه ظل يدعي أن الوطنية من بقايا العهود الهمجية وأن من يعيش عيشة فكرية حقيقية لا يمكن أن يعترف بالوطن والوطنية. . . وظل يدعو الناس إلى نبذ النزعات الوطنية مهما