وهل قلت قط إن الكواكب أو الذرة أو الأثير تثير حساً اجتماعياً في النفوس؟ هل قلتها صراحة أو ضمناً؟ إنني أتهم نفسي وأعود إلى مقالي أقرأه حرفاً حرفاً فلا أجد شيئاً من ذلك وإنما أجد هناك أنني قلت:(ليست الكشوف الظاهرة قاصرة على الضرب في مجاهل الأرض واكتشاف أرجائها المجهولة، وإنها هنا لأنواع وضروب أخرى من الكشف الظاهري لا تقل روعة وشدهاً للخيال وصرفاً للإنسان من داخله إلى خارجه عن أعظم المغامرات الجغرافية). وقد سقت ذلك في معرض التدليل على أن بواعث الانصراف من الدخل إلى الخارج لا تكفي لتعليل ظاهرة الاختصاص وبروز الفروق في الأدب. فهذا عصرنا مليء ببواعث الانصراف من الداخل إلى الخارج كما كان العصر السابع عشر، ولكن علم النفس مع ذلك يتقدم باطراد، ولكن الرواية النفيسة التحليلية تحتل المكانة الأولى في مكتبة الأدب الحديث
وأحسب أن من الخير أن أعيد هنا ما كنت ذكرته في مقالي السابق تعليلا لظهور الدراسات الباطنة وما تلاها من تأسيس علم النفس التحليلي الذي تهداه أدباء الأجيال الحديثة في كتابة القصة النفيسة أو التحليلية فقد قلت هناك:
(إن هذه الدراسات الباطنة للنفس كانت مظهراً عادياً يتساوق مع المظهر العام لنشاط الفكر البشري في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فلما كشفت الكشوف الفلكية والطبيعية والكيميائية والفيزيولوجية، كشفت كذلك الكشوف في مجاهل النفس وخوافي الحس. فمذ اصطنعت الطريقة العلمية في البحث واخذ العلماء يجرون على أسلوب المشاهدة والفحص والاختبار اتخذت دراسة النفس خطة منظمة مجدية، فظهر أولا علم النفس العام وتلاه علم النفس التحليلي؛ ولكنا نعود ونقول إن هذه الدراسة لم يكن الحافز فيها والباعث عليها انتهاء الكشوف الظاهرة، وإنما كان الحافز عليها اتساع هذه الكشوف وسيرها على خطة علمية منظمة مجدية شملت الجماد والحيوان والإنسان جميعاً. . . الخ)
وأخيراً نحن نسلم للأستاذ العقاد بنظريته جملة إذ فسر لنا نشأة علم النفس العام والتحليلي بعده معزولين عن فروع المعرفة الأخرى في القرن السابع عشر وبعده، أما إذا اضطر أن يعيد علم النفس في نشأته وتقدمه إلى حظيرة العلوم الأخرى من حيث الصلة والزمن،