نفسه: أي الحياتين أقرب إلى المدنية حقاً! عاد إلى موطنه، ولكن أي موطن وهو ابن الأحراج ربيب الترحال والأسفار؟ لقد شد أبوه الرحال من جديد على رأس الأسرة إلى مقاطعة جديدة هي الينويس، تحفزه نفس الدوافع التي حركته من كنتوكي إلى أنديانا؛ وكان إبراهام هذه المرة عضد أبيه، فهو يومئذ في الحادية والعشرين. ولما حطوا رحالهم بعد أسبوعين قام كوخهم الجديد على ما شقت يده الفتية من أشجار. لقد صغرت أما قوته ومهارته قوة أبيه ومهارته، وسرعان ما أصبح أيب حديث الجيران في البقعة الجديدة
عمد إلى الزراعة فحرث قطعة من الأرض وبذر فيها القمح وسورها بسور من قطع الخشب سوتها فأسه، وكان يعاونه في ذلك فتى من ذوي قرباه؛ وترك أيب القمح ينمو وتناول فأسه وراح يعمل في الغابة أجيراً وقد ذاع صيته وتقدمه أينما سار، وهو يحس اليوم أن دخله من فأسه يزيد هنا عما كان يحصل عليه في أنديانا. ولكن أي دخل هذا إذا هو قيس إلى ما عسى أن يكسبه رجل غيره في بيئة أخرى؟. لقد أستأجره أحد الأثرياء ليقطع له خشباً يسور به مزرعته، فرضي أيب أن يقدم لذلك الرجل أربعمائة قطعة من الخشب نظير كل (ياردة) من القماش الساذج الذي طلبه أيب ليتخذ منه سروالاً!
وتجلت للناس فتوته وشهامته في عدة مواقف، فهو لا يفتأ يمد يده إلى البائس والملهوف في كرم وإخلاص، وهو لا يني يضرب بفأسه في نشاط وإقبال، ولقد تحداه ذات يوم رجل ذو قوة وبأس أن يصارعه، فنازله على كره منه، إذ كان ينفر من القسوة والعنف، وما لبث أن غلبه على أعين الناس فازدادوا له إكباراً
وما انصرف ابراهام يوماً عن المطالعة على الرغم من شواغله، فأوقات فراغه للقراءة لا لغيرها مما يقضي فيه الفراغ من ملاذ الحياة ومباهجها. وأي شيء هو أحب إليه من القراءة والدراسة؟ يا عجباً! هل كان يدري أن القدر يعده لأمر خطير سوف ينقل به تاريخ بلاده من صفحة إلى صفحة؟! كانت قراءته يومئذ في القانون، فقد ألقت المصادفات في يده كتاباً يدور البحث فيه على قوانين المقاطعة الجديدة. على أنه قد قرأ قبل ذلك كتاباً غير هذا في القانون، فهو جد مشغوف بالمحاماة والخطابة، وكأنه كان يهيئ نفسه لهذه المهنة التي هام بها وجدانه، وهو بفطرته ميال إلى محادثة الناس كما سلف أن ذكرت، وإنه اليوم ليخطبهم كلما دعا إلى ذلك داع