وشاءت الأقدار أن يذهب في رحلة أخرى مع رفيقين إلى نيوأورليانز؛ فقد اختاره أحد التجار ليقوم على تصريف بضاعته وجعل له ولزميليه أجراً في نظير ذلك. ولقد صادف في تلك الرحلة حادثاً آخر: ذلك أن القارب اصطدم بحاجز صخري عند بلدة نيوسالم فتعلق وانحدر وأوشكت حمولته أن تهوي إلى الماء لولا ما كان من مهارة أيب وقوة ساعديه، تلك المهارة التي أعجب بها نفر من أهل تلك البلدة وقد تجمعوا يشهدون الحادث
ولما فرغ ابراهام من أمر تلك البضاعة ولى وجهه تجاه أسواق الرقيق يدرس حالها من كثب وهو لم ينس يوماً ما تركه حال العبيد من أثر في نفسه منذ زيارته الأولى. ألا إنه ليهتم لهذا الأمر أكبر اهتمام ويقلبه في خاطره على كافة وجوهه، كل ذلك في عمق وتمحيص فتلك خلة من أبرز خلاله؛ فهل كان يعلم ابن الغابة أنه سيؤدي للعالم من عنده رسالة جديدة ويخطو بالإنسانية خطوات واسعة نحو النور بتحريره هؤلاء العبيد وفك أصفادهم؟ كلا! ما كان يدور بخلده يومئذ شيء من هذا
رأى ويا لهول ما رأى! رأى في تلك الأسواق جماعات من السود ذكوراً وإناثاً جيء بهم قسراً من مواطنهم مقرنين في الأصفاد يباعون كما تباع الماشية، يلهب التجار جلودهم بالسياط ويسوقونهم كما تساق الأنعام كأنهم لا يمتون إلى البشرية بصلة. وما كانت نفسه الكبيرة، وما كان قلبه الرحيم ليمر بتلك المناظر كما يمر غيره من الناس، كلا بل ستبقى مسألة العبيد في أعماق نفسه حتى تحين الفرصة
أخذت عيناه فيما رأى فتاة جميلة المحيا مرهفة القوام يعرضها الباعة على الأنظار وهي نصف عارية كما يعرضون فرساً كريمة، وقد افتتن بقسماتها وقوامها الشاهدون؛ وابراهام تتحرك نفسه من أعماقها ويتألم ما وسعه الألم. وصفه أحد زميليه فقال:(رأى لنكولن ذلك وإن قلبه ليدمى. لم تتحرك شفتاه وظل صامتاً، ومشت في وجهه كدرة الهم؛ وأستطيع أن أقول وأنا به عليم، أنه في تلك الرحلة قد كون لنفسه رأيه في مسألة العبيد)
ومما يروى عنه في تلك الرحلة أن عرافة لقيته فقالت وهو يمازحها:(يا فتى سوف تكون رئيساً للولايات ويومئذ سيتحرر جميع العبيد) وما كانت كلمات العرافة إلا كلمات القدر تجري على لسانها في نبوءة عجيبة!
وقفل إبراهام راجعاً إلى الغابة وقد ازدادت تجاربه ومعرفته بالحياة والناس وهو في سن