الدراسة والتطلع إلى معرفة النفس البشرية وما تنطوي عليه من معاني الخير والشر. ولقد سلمت نفسه من شرور المدنية، فلم تعلق بها أو شاب! وهل كان لنفس مثل نفسه محصتها الشدة وعصمتها الحياة المحصورة في الغابة، أن تزل أو ترقى إليها غواية؟
لم يقم إبراهام طويلا في كوخ أبيه؛ فما لبث أن خرج في طلب العيش. وقد أدرك أنه بعد أن تجاوز الحادية والعشرين يستطيع أن يغادر أباه ليقوم على شؤونه بنفسه. خرج من الكوخ إلى غير عودة إليه! فترمي به النوى مطارحها كلما تصرمت الأيام، وكان أول عمل قام به أن فتح له ذلك الرجل الذي استأجره في رحلته الثانية إلى أورليانز - حانوتاً في نيوسالم وأقامه فيه ليبيع نائباً عنه وذلك لما خبر من مهارته وأمانته. ولقد قطع أيب المسافة إلى نيوسالم على قدميه؛ وأخذ يبيع في الحانوت في خفة ولباقة كأنه مارس التجارة من قبل. وأتاح له ذلك العمل فرصة لقاء الناس، ولقد رأوا من خلاله ما امتلك به قلوبهم؛ رأوا منه لين الجانب وسعة الصدر وحلاوة اللسان وسرعة اليد وحسن الملاطفة والممازحة، ورأوا منه فضلا عن ذلك جميع الأمانة كأعظم ما تكون الأمانة. وأتاح له ذلك العمل أيضاً أوقاتاً يقضيها في المطالعة فكان يتمدد على ظهر صندوق ويقرأ حتى يقصده مشتر فيبيعه ما يطلب ثم يعود إلى كتابه
ولشد ما أعجب الناس بإبراهام وخلاله وصار يعرف بينهم باسم أيب الأمين، وصارت تلك الصفة منذ ذلك اليوم أشهر صفاته وأحبها إليه وإلى الناس. حدث أنه أعطى لامرأة ذات مرة على جهل منه مقداراً من الشاي أقل من حقها، فلما أدرك ذلك سار إليها آخر النهار مسافة طويلة يحمل إليها باقي الشاي؛ وحدث أنه أخذ خطأ بعض دريهمات من رجل فلما عد ماله آخر النهار سأل عنه اهتدى إليه ودفع له دريهماته. وكان الناس يعلمون هذا وغيره فيقبلون عليه معجبين. ولم ينس في تلك البلدة ما جبلت عليه نفسه من النجدة والمروءة والحدب على الضعفاء. ونمى أمره في ذلك إلى جماعة من الفتيان في البلدة كانوا يجعلون العربدة هويتهم والشغب مسلاتهم؛ وكان على رأسهم فتى مفتول الساعدين شديد المراس يقال له أرمسترنج. فجاءوا عصبة إلى ابراهام يسخرون منه ويتحدونه أن ينازل زعيمهم، وهو يعرض عنهم وتأبى عليه نفسه أن يحفل بهم؛ ولكنهم يسرفون في التحدي والقحة، حتى يخرج إليهم ويسير إلى قائدهم ويشتد الصراع بين الفتيين ويستجمع ابن