للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ثم يضحك ضحكات بائسة. . . فلا أملك إلا أن أضحك أنا أيضاً!

وتشجعت يوماً فأطللت برأسي من النافذة، ثم هتفت به: (سنسناتوس!) فاستدار حوله، حتى إذا بصر بي تبسم ضاحكاً، فقطفت قرنفلة جميلة من طاس أزهاري وأرسلتها إليه. . . ومنذ ذلك اليوم، ونحن صديقان. . . وأي صديقين؟!

وقد سماني (كيرلي لوكس!). ففي أمسية يوم سبت من شهر يوليو بينما كنت واقفاً على الجسر الجميل أرقب سفائن الصيد عائدة أدراجها، ومن خلفها الشمس الرائعة تصبغ السحاب بالذهاب، وتوشي حواشيه بالقرمز، وتنصب بالنهر في لجة البحر ذوباً من اللألاء واللُّجين. . . في حين تنعكس العدوتان، وما نما فوقهما من قصب وغاب، وما بسق عليهما من حور وشاهبلوط، في مائه العذب، فتكسوانه حلةً من سندسٍ وإستبرق!

وكانت الزوارق تلقي مراسيها في بطء وتتضامُّ على رويد، وشرعها البرتقالية تصطفق وتتكسر، فترتسم عليها النقوش العربية، فتبدو غرابيبَ سودا. . . وقد بدأ الصيادون ينزلون أسماكهم من زورقين كبيرين، فرحين جذلين بما رزقهم الله، منشدين متغنين

وتلفت حولي فجأة فرأيت سنسناتوس واقفاً حِيالي والعرق يتفصد من وجهه، وقد خبأ شيئاً في يده وراء ظهره، فمددت إليه يدي المذعورة المرتجفة، وناديته: (أوه! سنسناتوس!) ورفت على شفتيه ابتسامة ساذجة كابتسامة الطفل، ثم مد إلي يده وفيها باقة رائعة من أزهار الخشخاش، وسنابل القمح، فاختلطت حمرة (أبي النوم) بذهب البر، حتى ما تمالكت أن صحت: (شكراً لك وألف شكر! ألا ما أجمل وما أبهى!!) وبدلاً من أن يرد علي، فقد أرسل أصابعه فوق جبينه ووجنتيه لينزح العرق، ثم حملق في يده وحملق في، ثم ضحك من أعماقه ضحكاً رقيقاً باكياً. . . وقال: (لقد وجدت تلك الأزهار الأرجوانية نامية وسط حقل من القمح، فأحببت أن أقطفهن لك. . . ألا ما أجمل وما أبهى!! لقد قطفتهن لك، ولم أبال الشمس التي كانت تصب نيرانها فوق رأسي!)

وكان يتكلم في هدوء واستسلام؛ وكان يرسل الكلمة ويستأني، ثم يرسل الأخرى ويستجم؛ وكان يبدو عليه التعب، لكنه كان يحاول وصل كلماته حتى لا يفلت منه زمامها. . . وكان يبدو كأن ألف فكرة تزدحم في رأسه، وألف صورة من صور ماضيه المؤلم تربك تفكيره. . . فكان يستذكر منها الصورة والصورتين والثلاث، ويترك الباقيات تتفرق كسرب من

<<  <  ج:
ص:  >  >>