هذا اللظى الذي يجدونه في نفوسهم وفي أجسامهم فتنطلق الألسنة من عقلها بعض الشيء، وتستطيع النفوس أن تحرك أجنحتها قليلاً وأن تصعِّد في الجو بعض التصعيد ويستطيع المرح الهادئ أن يبعث في القلوب شيئاً من الراحة والابتهاج. ثم يتقدم الليل ويذكر الناس أن الصبح سيشرق بعد حين ومعه الأعمال والأثقال، والتكاليف والحر والضيق، وإذا هم مضطرون إلى أن يعودوا إلى بيوتهم ويسعوا إلى مضاجعهم كارهين.
كذلك نقضي الصيف في بلادنا إن لم نكن من المترفين الذين لا يكادون يحسون الصيف حتى ليعبروا البحر إلى حيث يحيون حياة اخرى، أو لا يكادون يحسبون الصيف حتى يسرعوا إلى ساحل البحر، فيحيون حياة خير منها ما نحن فيه من كسل وفتور، ومن تقصير وقصور، فلغو الصيف شيء طبيعي ملائم أشد الملاءمة لحياة الصيف. أما الشتاء فشيء آخر كله فرح ومرح، وكله حركة ونشاط، وكله حياة خصبة عذبة منتجة، تجد فيه النفوس أقصى لذاتها، وتجد فيه الأجسام أقصى قدرتها على الاستمتاع. أكل كثير، وشرب كثير، واضطراب في الأرض كثير، وإقبال على العمل. ونسيان الكسل، وحياة مملوءة إلى حافتها، تفيض أو تكاد تفيض بما يفعمها من الآمال والأعمال. ثم ضيق بالحياة، لأن الحياة تضيق بما نريد. وتعجز عن أن تسع كل ما تسعه آمالنا ورغباتنا وشهواتنا، وقد كدت أنسى واجباتنا. وهل للواجبات مكان في حياة الشتاء هذه التي يفعمها الجنون؟ مسكينة هذه الواجبات! يطاردها فتور الصيف ويطاردها نشاط الشتاء فحظها من عنايتنا قليل دائماً. ولعمري إنّا لمعذورون، أما عذرنا في الصيف، فلا يقبل جدالاً ولا مراء، ومن ذا الذي يستطيع أن يكلف الناس أن يعملوا وهم عاجزون عن العمل، أو يكدوا وهم مصروفون عن الكد. والله عز وجل لا يكلف النفوس إلا وسعها، ولا يحمل الناس ما لا طاقة لهم به، واما في الشتاء فعذرنا أبلغ منه في الصيف، وكيف تريدنا على أن نفرغ للعمل، ونخلص للإنتاج، ونؤدي واجباتنا مشغوفين بها، مقبلين عليها، وحولنا من المغريات ما لا تقاومه إلا نفس سقراط أو أشباه سقراط،. ومن يدري لعل سقراط لو عاش في أيامنا، واضطراب في بيئتنا، لكان رجلاً مثلنا تصرفه المغريات عن أن يعرف نفسه بنفسه، وعن أن يولد نفوس محاوريه ويخرج منها كل ما احتوت من حقائق العلم والحكمة، وفنون المعرفة وألوان الخير.