للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الويل للفيلسوف العظيم إن دعته نفسه إلى أن يعرفها، أو يحقق ما كان مكتوباً على معبد دلف (اعرف نفسك بنفسك) وأين يجد سقراط الوقت الذي يخلو فيه إلى نفسه إذا جنه الليل؟ فالليل لا يلقي على الأرض أستاره المظلمة ليأوي الناس إلى بيوتهم بل ليخرجوا منها، وكيف تريد، أن يأوي سقراط إلى بيته أو يخلو سقراط إلى نفسه، وهذه الأوبرا قد فتحت أبوابها، ومدت أسبابها، وأقبل عليها الممثلون والمغنون يعرضون بدائع التمثيل وآيات الغناء.

وهذه دور السينما تعرض في كل يوم جديداً، وهذه قاعة (يورت) يوقع فيها فلان، وقاعة (الليسيه) يوقع فيها فلان، وقد يجمع سقراط شجاعته كلها ويقول بقلب متردد ولسان متلعثم انه لا يحب ما يمثل الليلة، أو ما يوقع، أو ما يغنى، وأنه يؤثر الراحة أو الانقطاع لبعض العمل، ولكن ويل لسقراط من هذه المقالة! فمن زعم له انه سيشهد التمثيل أو يسمع الغناء لأنه يحب أو لا يحب، ولأنه متعب أو مستريح، انما يشهد التمثيل ويسمع الغناء ويختلف إلى دور السينما لأن الناس يجب أن يروه في هذه المشاهد كلها، وإلا فليس هو من أهل القاهرة، ولا من ذوي المكانة فيها، وقد تظن أن سقراط حين يذهب إلى الملعب أو إلى دار من دور السينما أو إلى قاعة من قاعات الغناء يستطيع أن يفرغ للفن أو يستمتع به، فاطرد عن نفسك هذا الظن، واذكر أن هناك (الانتراكت) ومقابلات الانتراكت، وأحاديث النظارة والمستمعين عما رأوا وما سمعوا ويا لها من أحاديث تبغض الفن إلى أحب الناس للفن، يجب أن يكون لكل واحد من هؤلاء النظارة والمستمعين رأي يراه، وكلمة يقولها فيما رأى وما سمع، وقد يكون هذا الرأي سخفاً، وقد تكون هذه الكلمة جهلاً، وهما كذلك في أكثر الأوقات، ولكن سقراط مضطر إلى أن يسمعهما ويقرهما، أو يجادل فيهما مجادلة المقر الذي لا ينكر. وهناك ما هو أثقل من ذلك، فيجب أن يكون لسقراط رأي يقوله وكلمة يقولها وإن لم ير شيئاً، وإن لم يرد أن يقول شيئاً ذلك أنه إذا لم يقل كلمته اتهم بالجهل، أو وصف بالكبرياء، وكلاهما لا يليق بالحيوان الاجتماعي الذي ذكره ارستطاليس في كتاب السياسة، والذي يتألف منه ومن أمثاله سكان مدينة القاهرة، كما يتألف منه ومن أمثاله سكان باريس.

حتى إذا تقدم الليل عاد سقراط إلى بيته متعباً مكدوداً فأوى إلى مضجعه ولم يلبث أن يأسره النوم. ولعلك تظن أن تكاليف سقراط تقف عند هذا الحد، فما أشد إغراقك في الوهم! وأين

<<  <  ج:
ص:  >  >>