يعطيها أصحابها، وهو يلتهم الكتب في ساعات فراغه التهاماً. وكان أكثر ما يقرأ يومئذ كتب القانون، ولعله كان ينوي أن يتخذ المحاماة عملاً له، فلقد كان الناس يأتونه ليحكموه فيما يشجر بينهم من خلاف، وهو عندهم القوى الأمين؛ لا يتحيز إلى شخص أو فئة، ولا يتعثر في أمر، ولا يسمح لأحد أن يلبس أمامه الحق بالباطل، كل ذلك في رفق ودراية ولباقة. . . وكان إذا عرض له أمر رده إلى ما عرف من القانون ليتبين وجهه، أو أفاد من دراسته وبحثه علماً جديداً. وقد ألقت الأقدار إليه ذات يوم كتاباً في القانون يقع في أربعة أسفار عثر عليه كما يعثر على كنز. وبيان ذلك أنه اشترى بثمن بخس من رجل انتوى الرحيل بعض متاعه، وكان صندوقاً به أوراق، قلبه فعثر في قاعه على كنزه وهو كتاب (نظرات في تاريخ إنجلترا) لمؤلفه بلاكستون، وكان من أشهر ما كتب في القانون في تلك الأيام!
وهو يعيش اليوم على راتبه الضئيل من عمله في البريد ومما كان يرسله الناس من قوت إلى الأسرة التي كان يقيم بينها نظير ما كان يقدمه إليهم من نصح أو يسوى بينهم من خلاف. وإنك لتلمح شخص المحامي الناشئ في شخص عامل البريد هذا. . . على أنه تقدم فعلاً ليدافع عن بعض الناس أمام المحلفين في بعض الجلسات القضائية في تلك الجهة. وعرف بسداد الرأي وقوة العارضة ومتانة الحجة، وما وقف يدافع يوماً إلا عما يعتقد أنه الحق
ومست قلبه في تلك الأيام لذعة من الألم، فقد ألم به ما يلم بالشباب من علل الشباب، وانعقدت أمام بصره سحب قاتمة من الهم كان مبعثها ما دب في قلبه من أمل جديد نحو آن ابنة صاحب الخان، فلقد علم، وهو صاحب البريد، أن فتاها انصرف عنها ونسي ما كان بينها لما نزل بأبيها من فاقة، وخيل إلى أيب أنه اليوم يستطيع أن يصل إلى قلبها، لولا مزاحم جديد يُدِلُّ عليه بماله وهو لا يدانيه في كفاية ولا خلق. . . على أنه في خجله من النساء لا يعرف ما يأخذ مما يدع، فهو في حيرة من أمره، وهو كما علمت متقد العاطفة موفور القوة مشبوب الخيال، وذلك ما صور له طيوفاً من الشجن أخذت تتزايد حتى ليضيق بها قلبه ويكاد الأمر أن يصل به القنوط. روى عنه أنه قال لأحد خلانه: (ربما ظهر مني حينما أكون في رفقة أنني أستمتع بالحياة في نشوة، ولكني إذا أويت إلى عزلتي