القصص؟ الحق أن الكاتب المطبوع يولد وفي قريحته أصول الأنواع الأدبية؛ تنمو بنموه، وتطور بتطوره، وترقى برقيه؛ ولكن ذلك يحصل لبعضها بالفعل، ويحصل لبعضها الآخر بالقوة. فلو أن العقاد كتب (سارة) أيام كتب (مجمع الأحياء) لكان من الراجح أن يكتبها من نوع غير هذا النوع، وبأسلوب غير هذا الأسلوب؛ ولكنه كتبها حين كتب (سعد زغلول) فجاءت من النوع التحليلي البارع، وبالأسلوب المنطقي المشرق. والقصة التحليلية هي آخر أطوار القصة، كما أن الشعر الفلسفي هو آخر مراحل الشعر. ونتاج الذهن يتطور بين الطفولة والكهولة في الفرد والأمة والخليقة؛ فالأسطورة تنتهي إلى القصة، والملحمة تصير إلى الرواية، وشعر الغناء يؤول إلى شعر الفلسفة
(سارة) قصة فتاة مثقفة لعوب أرملة، وصفها العقاد في فصلين لا نجد كثيراً من أمثالهما في أدب العالم، وهما (من هي) و (وجوه). عرفها همام المهذب العقل الطيب القلب وهو في وسط عقده الرابع أعزب وحيد، فشغفته حباً للأسباب التي حللها الكاتب في فصل من هذه الفصول؛ ثم وصلت بينهما الطبيعية بالصلة التي لا حيلة فيها لانتظار ولا اختيار ولا خبرة؛ وظلت هي على نحيزتها الأنثوية تعابث وتخابث وتلبس تارة لباس (مانون)، وتارة أخرى لباس (مادلين)؛ وظل هو على شكيكته العلمية يؤول، ويعلل، ويفرض الفروض، ويثير الشكوك، ويقوى حيناً فيكون (دون جوان)، ويضعف حيناً فيكون (دي جْريو) حتى ذوى الحب بين الشك منه والسأم منها فتفرق العاشقان
ليس في القصة إذن حادثة تروعك، ولا مفاجأة تدهشك، ولا عقدة تشوقك؛ ولكن هذا الحادث العادي المطروق أصاب ذهناً شديد النفاذ، وفكراً دقيق الملاحظة، وشعوراً صادق الحس، فتجلى في (سارة) صوراً واضحة الخطوط، ناطقة الملامح، عبقرية الألوان، تمثل هذه المرأة في جميع حالاتها وعلى كل وجوهها تمثيلاً عارياً لا ينفع فيه ثوب رياء ولا ورق تين. ولعل الطريف في (سارة) أنها تحلل تركيب العشق في قلبي عاشقين من ذوي الثقافة والفكر، فتنتهي إلى أن الفلسفة لا تجعل من العاشقة إلا امرأة ككل امرأة، ولا من العاشق إلا رجلا كأي رجل
أما أسلوب (سارة) فهو أسلوب العقاد: صريح لا رغوة فيه، جلي لا غبار عليه، مستقيم لا التواء به؛ يتصل فيه اللسان بالعقل فلا يلغو، ويعتمد فيه القلم على القريحة فلا يهين. على