ومما يحسن التنبيه اليه أن فعل (اذّرى) التي هي بمعنى التذرية في قول الشاعر المذكور لم يقل أحد من علماء اللغة أن المراد بها تذرية حب الحنطة مثلاً، بل أجمعوا على أن مراد الشاعر تذرية الذهب وتنقيته من التراب فيظهر أن البيت من قصيدة حكى فيها الشاعر حادثة جرت له مع الحسناء (جُمل) وهما يعملان في معدن (حِلِّيت) على وزان (سِكّيت) في بلاد نجد أو غيره من مناجم جزيرة العرب التي كثر التحدث عنها في الآونة الأخيرة.
وكما استفدنا من علماء اللغة أن (المحِّصلات) هن المشتغلات في المعادن، وأن (التحصيل) من أعمال النساء الخاصة بهن أو الغالبة عليهن، استفدنا ذلك ايضاً من شعراء العرب. فقد قال أحدهم:
اإلا رجل جزاه الله خيراً ... يدلُّ على محِّصلةٍ تبيت؟
وهذه الدلالة في مغزاها تشبه الدلالة في قول الأخر:
يا من يدلُّ عَزَباً على عَزَبِ
وإذا كانت وظيفة المرأة العربية في معادن الذهب ما ذكرنا، فتكون الحسناء (جُمل) بينا هي منهمكة في تحصيل الذهب وتخليص شذراته، كان الشاعر الذي قال:(كيف تراني أذَّرى وأدَّرى الخ) كان يدَّرى تراب الذهب ويلاعب المذراة أو المنسف بيديه، أما عيناه فكانتا تلاعبان عيني (جُمل)؛ فكان يختل (غرَّاتها) جمع (غرَّة) أي غفلتها، فإذا غَفلت رنا اليها. فيكون بذلك قد ختلها، أي خدعها مذ أوهمها أنه لا ينظر اليها مع أنه ينظر. ولم تكن (جُمل) بأقل كلفاً وحرصاً على مسارقته النظر، فكانت هي في نوبتها أو في دورها (كما يقولون)(تَدَرَّاه) أي تختله وتخدعه فتوهمه أنها لا تنظر اليه، ثم تتحَّين (غِرَره) جمع (غِرة) أيضاً أي غفلته حتى إذا سنحت لها غرة من غرره نظرت اليه معجبةً أو متفرّسة إن كان يصلح لها بعلاً أو لا.
ومحصّل القول أنه كان للعرب معادن ذهب يجتمعون نساء ورجالاً، أحراراً في عملهم، أو مأجورين لصاحب (رأس المال) رومي أو فارسي يشغلهم على حسابهم. وإن النساء كان عملهن التحصيل، أي تنقية ذرّات الذهب وشذراته، بينما الرجال الأشداء كانوا يقومون بأعمال أخرى أشق من أعمالهن كالتذرية وتفتيت الصخور بالمعاول ونحو ذلك.
ويظهر من لهج شعرائهم بذكر (المحصّلات) أنه كان لهن من تجمعهن في ذهابهن إلى