وعهدي أن الماء يضعف إن غدا ... بخاراً فكيف الآن ذا الضد صاير
ويواصل نظمه ثلاثين بيتاً يتغزل في (عفريت البر وباشق البخار) ويقارن بين راحة السفر على أجنحته وتعب الأسفار على ظهور الإِبل:
ولم يبق من ظعن سوى العجلات في ... حديد تكر الدهر وهي صوابر
أبت غير نيران اللظى علفاً لها ... وهن على خير الهشيم دواير
ولما لمع وجه الصباح، نهض من فراش النعام وطفق يطوف ليون ليتفرج على ما تشتمل عليه من المحاسن واللطايف؛ وهو يذكرنا إذ يتغنى بجمالها وكمالها وما (اجتمع لها من المقومات المدنية والأدوات التمدنية بأن أول من شرع في رفع شأنها أحد أولاد قلويس ملك الغوليين ذي الشهرة العظيمة في غاليا بإدخاله إلى هذه المملكة جملة نظامات وتجديدات لمع بها زمانه، وأهمها إدخاله الديانة المسيحية في الغوليين بعد أن أدخلته فيها امرأته بقصها عليه أخبار قسطنطين الكبير، وبإقناعها له أنه إذا سلك مسلك ذاك الملك المنتصر بالتنصر، إنما يقهر نظيره كل أعدائه)
وركب الخواجا فرنسيس نسر البحار بعد تمضية ثلاثة أيام في ليون، فطار به إلى باريس حيث وصل قرب انفلاق الصباح
ولنا أن نتوقع انفجار - أو ربما قال انفطار؟ - نفس رحالتنا في قلب باريس، وأن نترقب هبوط وحي الشعر عليه. ويظهر أن خواجتنا رجل يحسن (الإِخراج) فهو تاركنا نشتاق إلى شعره بعد أن حببنا إليه ببعض الخطرات، ليمضي في وصف نثري لباريس حتى قبيل آخر الكتاب، ثم هو مطبق علينا بقصيدة مخمسة عددت شطراتها فكانت خمسمائة شطرة والعياذ بالله. وبذلك يكون الخواجا فرنسيس قد أفرغ فينا شعره مرة واحدة
وكان المتوقع أن يترك رحالتنا للشعر مهمة التعبير عن احساساته في باريس، وأن يودعه تفكيره العالي، تاركاً للنثر وصف المتاحف والميادين. ولكن رجلنا شعره منثور ونثره منظوم كما سبق لنا القول، فبينا هو يتغنى نثراً بباريس (مركز مجد العالم، ومصب أنهار العجايب، وموقع أنوار التمدن. . . وها قد أخذت عيناه ترى ما كان يراه ذاك الذي خطفته أرواح الآلهة إلى السماء الثالثة) إذا به يصطحبنا بشعره كأنه (بيديكر) فينصح بأن نترك الدرس لنتمشى في شوارع باريس: