وكأن الله قد أراد أن يبرئ ساحة الرجل من هذه التهمة الشنعاء، وأن يكشف حقيقته وموقفه من جهة الدين بعد أن ظل ذلك غامضاً في القرون الغابرة، إذ عثر أحد الأدباء على الجزء الأول من هذا الكتاب في دشت اشتراه من وراق بمكة، وإذا بالكتاب عظة دينية، قد أنشأه المعري في (تمجيد الله والمواعظ)، وإذا به وعاء قد أترعه المعري بشتى العلوم من اللغة والأدب والعروض والنحو والصرف والأمثال والتاريخ والحديث والفقه والفلك وعلم النجوم، وغير ذلك مما لم يثبت جمعه ولا إيراده بالطريقة التي سلكها شيخ المعرة. ذلك أنه يملي الفقرة على تلاميذه ثم يختمها بالغاية، وهي عنده بمنزلة القافية من بيت الشعر. وقد تطول الفقرة وقد تقصر، ثم يملي التفسير في أعقاب كل فقرة، وأحسب أن إملاء التفسير كان رغبة من طلابه لتوضيح ما يخفى عليهم فهمه وإدراكه، لأنه أملى أشياء في الكتاب ولم يفسرها، وربما كان ذلك لوضوحها لدى طلابه، فإذا انتهى من التفسير وأراد العودة إلى الإملاء قال (رجع) كأنه يريد نفسه أو يريد رجع إلى الإملاء.
والكتاب كله على هذا النسق، والجزء الذي بين أيدينا منه يبتدئ من أثناء حرف الهمزة وينتهي بحرف الخاء، يقول ناشره الفاضل:(لقد بحثت عن باقي الكتاب في كل المظان فلم أجد له من أثر)
أما الذي نهض إلى إخراج هذا الأثر النافع فهو أستاذنا الفاضل الشيخ محمود حسن زناتي أمين الخزانة الزكية سابقاً، فتولى تحقيقه وضبطه وتفسير غريبه وأنفق عليه من جهده وماله وراحته مدى عام كامل حتى جلاه للناس في حوالي خمسمائة صفحة من القطع الكبير في طبع أنيق ومظهر لائق. ولاشك أن الأستاذ الفاضل قد لاقى كثيراً من العناء في عمله، وأدى في ذلك جهداً ما كان يستطيع أن يؤديه إلا تلميذ الشنقيطي اللغوي والمرصفي الأديب؛ ذلك لأن لغة المعري الأدبية لغة غامضة قد تقف المعاجم التي بين أيدينا دون إجلاء غامضها وكشف المعنى المقصود من اللفظ، وإنما يستطيع كشف ذلك من ارتاض على أساليب المعري ولغته. ولاشك أيضاً أن الأستاذ الفاضل بهذا العمل الجليل قد خدم الأدب والعربية، والحقيقة والتاريخ، إذ كشف للأدباء ناحية من نواحي المعري ظلت مطموسة في القديم والحديث، وإذ يسر لأهل الضاد الانتفاع بهذا الأثر النافع. وقد كانوا في