للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والحكماء، وأسرف في اتخاذ مبادئ الاقتصاد إنجيلاً لا يكاد يؤمن إلا به. فكما أن الفرد يرى في أصول علم النفس أن إرضاء النزعات والرغبات فيه شفاء لما يحز في النفس من ألم ممض، كذلك ترى الجماعات أن في إرضاء رغباتها ونزعاتها الاقتصادية شفاء لما تعانيه من جفوة وشقاء. والاقتصاد كما هو الآن علم المنافسة الحادة على احتكار المادة والتطاحن على الكماليات؛ وليس يخفف من حدته أي فكرة واضحة عن المعاني الأولى؛ وليس ينهنه من شدته أي قوة دافعة إلى المثل الأعلى. وقد كان الاقتصاد نفسه معيناً يستمد منه المؤرخون وعلماء النفس ما يرونه من القضايا ليتشككوا في قيم الخلق العام

تلك إذن هي الدراسات التي نفخت روح الشك في العالم الحديث، وزلزلت اليقين الذي استهدى به الفلاسفة الخلقيون والسياسيون عندما كان العالم أشد من ذلك إيماناً. وقد اضطربت قوائم السياسة والاجتماع والاقتصاد لهذه الحالة المتشككة، لأن العلماء أنكروا قوة الخلق في الفرد، وأنكروا كذلك قوة الخلق في الجماعة، فأدى ذلك إلى حالة من الاستهتار بالمثل العليا يعاني منها الغرب ما يعاني اليوم. وحينما ينادي الفلاسفة في أوربا بفكرة السلام، وحينما يعلنون للملأ سخطهم على الحرب، فليس لنا إلا أن نسخر من كل ذلك، لأننا نعلم في نفس الوقت أن قادة الفكر عندهم قد سوّغوا الحرب بآلاف من الأدلة التي استخرجوها من علم النفس والاقتصاد والتاريخ والاجتماع. وإذا سمعنا بعد ذلك عن العدل والإخاء والمساواة والمحبة فينبغي علينا ألا نؤمن بأن أوربا شديدة الإيمان بكل ذلك، لأن مذاهب عملية تناقض كل هؤلاء قد شاركت حياة نظمهم الاجتماعية والاقتصادية. وشبت معها وهي مازالت تدرج في عنفوانها مع المدنية الحديثة

والسياسة التي يؤمن بها الجمهرة من الناس قد تأثرت تلك الفلسفة العلمية التي أنتجتها دراسة تلك العلوم. وقد مشت الحضارة الغربية بيننا بما تحملته من كل ذلك، فاشتعب الناس في مصر فئات متنافر يلاحون عن مذاهب لا أصل لها في صميم الفكرة. وكانت نتيجة كل ذلك فوضى اجتماعية ضربت بجرانها في كل وجه من وجوه الحياة عندنا. ولن نستطيع أن ندرس المثل الأعلى حتى نقرر المبادئ التي ينبغي أن نلتزمها في حياتنا العقلية والسياسية والاجتماعية، وحتى نقدر الحقائق التي نعنو لها ونستهدي بها. ينبغي علينا أن نقدر قبل كل شيء أصالة الرأي والشرف والصدق في حياة الفرد. وينبغي علينا أن نقدر مبادئ الحرية

<<  <  ج:
ص:  >  >>