أصدرناها إليه بعد حمد الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويمهل حتى يلتبس الإمهال بالإهمال على المغرور، تذكرة بأمر ربك، فإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون؛ ويحذره صفقة من باع الآخرة بالدنيا فما أحد سواه مغبون، عسى الله أن يرشده بهذا التذكار وينفعه، وتأخذه هذه النصائح بحجزته عن النار، فإِني أخاف أن يتردّى فيجر من ولاّه - والعياذ بالله - معه. والمقتضى لإصدارها ما لمحناه من الغفلة المستحكمة على القلوب، ومن تقاعد الهمم على ما يجب للرب على المربوب، ولاسيما القضاة الذين يحملون عبء الأمانة على كواهل ضعيفة، وظهروا بصور كبار وهي نحيفة. والله إن الأمر لعظيم، وإن الخطب لجسيم، ولا أرى مع ذلك أمناً ولا قراراً ولا راحة، وإلا رجلاً نبذ الآخرة وراءه، واتخذ إلهه هواه، وقصر همّه وهمته على حظ نفسه من دنياه، فَغَايُهُ مطلب الحياة والمنزلةُ في قلوب الناس وتحسين الرِّئى والملبس، والركبة والمجلس، غير مستشعر حاله ولا ركاكة مقصده، فهذا كلام معه، فإِنك لا تُسمع الموتى وما أنت بمسمع من في القبور. فاتق الله الذي يراك حين تقوم، واقصِرْ أملك عليه فالمحروم من أمله غير مرحوم. وما أنا وأنتم أيها النفر إلا كما قال حبيب العجمي، وقد قال له قائل:(ليتنا لم نخلق) فقال: (قد وقعتم فاحتالوا). وإن خفي عليك بعض هذا الخطر وشغلتك الدنيا أن تقضي من معرفته الوطر، فتأمل كتاب النبوّة: إن القضاة ثلاثة، وقوله صلى الله عليه وسلم لمن خاطبه مشفقاً عليه:(لا تأمرنّ على اثنين، ولا تَلِيَنَّ مال يتيم) ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم اهـ
وقد حدث في سنة ٦٩٧هـ، والسلطانُ يومئذ الملك المنصور حسام الدين لاجين، أن نائب السلطنة منكوتمر أراد أن يستخلص من ابن دقيق العيد حكماً في قضية ميراث لأحد أصحابه بغير بيّنة شرعية، فامتنع قاضي القضاة من ذلك وهو عالم بأن منكوتمر أقوى شخصية في الدولة قاطبة، وتردّدت الرسل بينهما وابن دقيق العيد لا يتحرك عن موقفه؛ فأغاظ ذلك منكوتمر وأرسل أحد الأمراء الكبار إلى قاضي القضاة لعله يفوز منه بطائل. وقد أورد المقريزي قصة هذا الحادث في تفصيل، فذكر أن منكوتمر بعث إلى ابن دقيق العيد يعلمه أن تاجراً قد مات وترك أخاً ولم يخلف غيره ممن يرثه، وأراد أن يثبت استحقاقه الإرث بمجرد هذا الإخبار عنه، فلم يوافق قاضي القضاة على ذلك. وتردّدت