يعرفون ما الخضوع، طبيعة نفوسهم كطبيعة بلادهم، فيها مناعة الجبال ووعورة الجبال، وفيها صرامة البيد وبساطة البيد؛ فهم لذلك في القوة كالعرب المهاجمين يطرحون نفوسهم تحت المنايا ولا يطرحونها تحت أقدام الفاتحين
وكانت البلاد التي اثخن فيها بخيله ورجله مترامية الأطراف مجدبة المطارح إلا واحة هنا أو غيضة هناك، وبقاعاً خضراء قليلة على شواطئ البحر حول مجاري السيول والأنهار. وكانت تلك البلاد لامتداد رقعتها وبعد ما بين أولها وآخرها أقساماً لكل منها اسم يميزه! فهذا هو أفريقية، ثم هذا هو المغرب الأدنى، ثم هناك من ورائه المغرب الأقصى. . . لذلك كان عقبة وجيشه يحاربون في هذه الفيافي المترامية عدوين: البربر الغلاظ، والطبيعة القاسية!
ولد عقبة بن نافع الفهري في عهد الرسول ولم تعرف له على الأرجح صحبة، فكان لذلك من التابعين. وكان عقبة - كما سيتجلى لنا من أعماله - يمثل الخلق العربي أحسن تمثيل. كان شجاعاً مقداماً بعيد الهمة، صليب العزيمة، صريم الخلق، شديد الإيمان لا يهاب قلبه الكبير الموت في أبشع صوره. وكان في إقدامه سريعاً ولكنه كان وثيق الخطو تذكرنا وثباته وثبات خالد حين كان يقطع البيد والمفاوز، وحين ذهب فحج ثم كان بعد قليل في ساقة الجيش
بعد أن تم للعرب إعلان كلمة الله في مصر واتجهوا نحو الغرب جاءوا برقة فأذعنت لهم بعد جهاد؛ وصالحهم أهل تلك البلاد على الجزية ودانوا لهم بالطاعة، ولكن الروم حين انحسر العرب عن برقة عادوا يبنون سلطانهم هناك من جديد، وقد أذاقوا البربر صنوفاً من العذاب فلم يستمعوا لهم إلى مظلمة أو يبالوا بما عسى أن تكون عاقبة أمرهم
وكان العرب فيما هم فيه يومئذ، بعد مقتل عثمان من بغضاء وتنازع؛ ومازالوا في شقاقهم حتى تم الأمر لمعاوية فوجههم من جديد وجهتهم الأولى ضد أعدائهم
ولقد كان لعقبة في فتح البلاد أول الأمر من مصر إلى برقة جهاد، وكانت له خطوات بارعة، ولكن أفعاله كانت لحقاً في ذلك الفتح إذ لم تكن له القيادة يومئذ. ولقد بقي عقبة فيمن بقي من العرب في حامية زويلا حتى كانت سنة خمسين للهجرة فأمده معاوية بعشرة آلاف ليغزو بهم أفريقيا!
أصبحت القيادة لعقبة، وذلك ما طال انتظاره إياه، وأحس هؤلاء الآلاف العشرة روحاً قوية