للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تغمرهم وتشحذ عزائمهم تحت لوائه، حتى كأن الواحد منهم بألف، فما منهم إلا محب للجهاد، مستهين بالأهوال، مرحب بالموت كقائده. وزحف بهم عقبة فما شهد الروم ولا البربر زحفاً أشد هولاً من هذا الزحف. لم تغن عنهم كثرتهم، ولم تغن عنهم عدتهم، وكانت أقواتهم في بلادهم موفورة لهم؛ ولا أقوات لهؤلاء العرب المستبسلين إلا ما يستلبون منهم من غنائم

وكانت الحرب طاحنة، وكان الجهاد مريراً، فالبربر أهل جلاد ومصابرة، وهم خبيرون ببلادهم عليمون بمسالكها؛ فكانوا إذا اشتدت عليهم وطأة محاربيهم اعتصموا بالبيد فضربوا في أرجائها، وبالكثبان فكمنوا من ورائها، حتى إذا زحف العرب وقد أخذ منهم الجهد بعد أن لم ينل منهم الخوف، وقد انطوت على السغب أحشاؤهم الضاوية، وتقرحت من الحر أكبادهم الصادية، برزوا لهم كأنما يخرجون من الأرض، ولكن ليتركوا من سلاحهم وزادهم بعد القتال شيئاً غير قليل في أيدي أعدائهم

وكان عقبة يقسو في قتال هؤلاء القوم لما خبر من طباعهم، ولما عرف من غدرهم ومكرهم، فهم إذا غلبوا على أمرهم يضعون السلاح ولكنهم لا يضعون الانتقام، فإذا واتتهم الفرصة نسوا كل عهد واستخفوا بكل ميثاق. وكانت سيوف العرب ونبالهم تفعل فعلها القوي في هؤلاء القوم كما كانت تفعل فيهم عزيمة العرب ومضاء العرب. وظل الحال كذلك وعقبة يرسل عليهم من جنده ذات اليمين وذات الشمال حتى تم له الأمر، على بعد الشقة وترامي البيد وصرامة القتال؛ فلما أشرف على موضع كان غير بعيد من موضع قرطاجنة القديمة ابتنى للعرب قاعدة جديدة

ابتنى عقبة القيروان ليقيم فيها المسلمون إذ لم يحب لهم أن يقيموا بين هؤلاء البربر. وكان موضعها بعيداً عن البحر حتى لا تطرقها مراكب الروم، وهي في البر بحيث تتوسط البلاد وتكون معقلا لصد البربر. وكان الموضع الذي اختاره أجمة عظيمة تسكنها السباع والحيات والأراقم؛ ولعل هذه الخلائق روعت، وقد أحاط جيش عقبة بالمكان، فنفرت أسراباً تحمل صغارها هاربة إلى الصحراء، وكان عقبة قد دعا الله أن ترحل؛ وأسلم من البربر كثير ممن شاهدوا هذا الرحيل؛ وهل يكونون من الوحوش والأفاعي أشد قسوة؟ واختطت المدينة وشيد بها عقبة داراً للأمارة، وبنى مسجداً، وبنى الناس بيوتاً لهم؛ واستقامت المدينة سنة

<<  <  ج:
ص:  >  >>