للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

خمس وخمسين وصارت تجاوب مآذنها مآذن الكوفة ودمشق والفسطاط، كلما أذن المؤذنون ورفعوا أصواتهم يذكرون اسم الله. . .

وهل كان لعقبة أن يقنع بما وصل إليه من فتوح وقد ضاقت البيد عن همته؟ لقد عول على مواصلة الزحف ليحمل كلمة الله، ويعلن اسم الله في مواطن جديدة؛ ولكن معاوية يجعل أمر مصر وأفريقية لمسلمة بن مخلد؛ ويستعمل مسلمة على أفريقية مولى له أبو المهاجر؛ ويقبل أبو المهاجر فلا يرعى لعقبة مقاماً فيوثقه ويسيء إليه كأن بينهما ترات! ولكن الليث في الحديد لن تنخلع عنه طبيعته، فما يزال عقبة صبوراً لا يعرف استخذاء ولا مسكنة. ويطلقه أبو المهاجر ليرحل عن تلك البلاد، فيرحل عقبة وفي نفسه حنق أي حنق، وقد تعاظمه الأمر وهو الفاتح القاهر؛ ولكن الأرض لله يورثها من يشاء، والأيام دول بين الناس. رحل عقبة برغمه وقطع بلاداً دانت من قبل لسيفه حتى جاء دمشق فعاتب معاوية عتاباً شديداً على ما كان من أمره بعد ما أبلى في الله من بلاء؛ وأراد معاوية أن يخفف عنه بعض ما به فوعده أن يرسله بعد حين إلى القيروان من جديد

وإنا لنحار فيما صنع معاوية! هل كان يخشى قوة عقبة ويشفق أن يعظم ويعظم حتى يخرج عن سلطانه؟ أم كانت تلك هي فعلة مسلمة جازت على معاوية دون أن يتدبر لها؟ الحق أنا لفي حيرة مما صنع. . .

وكانت لأبي المهاجر سياسة في أفريقية غير سياسة عقبة؛ جعل السياسة والملاينة في موضع السيف، واتصل بكبراء البربر وخفض لهم جناحه وصانعهم في أكثر الأمور. وكان يسفه آراء عقبة عندهم كما كان يسفهها عند المسلمين، وكان لا يقر له بفضل أو يترك أحداً من شيعته دون أن يلحق به أذى حتى عظم ذلك على الناس. ولكن البربر أحبوا سياسته وصانعوه مثلما صانعهم. وكان كبيرهم في ذلك رجل اعتنق الإسلام من قبل يقال له كسيلة؛ وكان كسيلة هذا به كبرة مبعثها الفظاظة والغلطة، وكان بطبعه أنوفا عيوفا لا يطيق أن يغلب على أمره.

وراح أبو المهاجر يمد الفتوح إلى المغرب وقد انحاز إليه البربر، فحارب الروم في قرطاجة ولكنه لم يقو عليهم؛ على أنه مد سلطان المسلمين قليلا إلى الغرب، ولبث في تلك البلاد بضع سنين أقرب إلى الدعة منها إلى الجهاد، وقد فترت في المسلمين حميتهم إلا

<<  <  ج:
ص:  >  >>