الذي يغمره وهو يستمع إلى أناشيد النصرانية بين جدران هذا المعبد القائم على حدود الصحراء. فما فرغ الرهبان من صلاتهم حتى دلف الفتى إلى كبيرهم يسأله أن يعقد بينه وبين هذا الدين آصرة. . . وربت الراهب على كتف الفتى وهو يقول:(لله هذا الإيمان في فتى مثلك ريان لم تفتنه مباهج الحياة عن معرفة الرب الأعظم. . ما اسمك يا فتى؟)
- (سلمان الفارسي!)
- (ليباركك الله يا سلمان وليمنحك التوفيق والهدى!)
واعتنق سلمان النصرانية عن إيمان وتقى؛ ولكن الفتى لم يقنع بما أفاء الله عليه حتى يعرف أين أصل هذا الدين فيسعى إليه
وفارق الفتى أصبهان وخلف وراءه مولده ومرباه وأباً له جاه وسلطان ومال، لم يكن أحد أحب إليه من ولده. وتلفت الفتى إلى وراء، فتحدرت على خديه دمعتان وهو يقول:(وداعاً يا بلادي الحبيبة، وداعاً لا أدري متى ألقاك منه إلا أن يأذن الله. . .!) وتلاشت آخر كلماته في زفرة حزينة، ثم طأطأ رأسه ومسح دمعته وأستأنف سيره إلى دمشق، إلى حيث يعرف أصل هذا الدين. . .
والتقى سلمان وأسقف الكنيسة في دمشق، فلزمه يستمع إليه ويأخذ عنه ويصلي معه؛ ولكن سلمان لم يجد في الأسقف ما كان ينتظر أن يجد في رجل نذر نفسه لله؛ لقد كان رجل سوء يأمر بالصدقة ويرغب فيها، فإذا اجتمع إليه شيء منها اكتنزه لنفسه فلا يتصدق به، فإن المال عنده لأكداس، وإن المساكين لعلى الأبواب يستندون الأكف ويبيتون على الطوى؟
وضاقت نفس الفتى بما وجدت فلم يجد حيلة لنفسه مما يرهق نفسه؛ لقد فر من المجوسية إلى دين البر والرحمة والسلام، فما وجد عند أهله شيئاً من البر والرحمة والسلام؛ وعاد التمرد إلى الفتى وشغلته أشجانه فما يستبين طريق الرشاد. . .
- (أي ربي، إنك لتسمع دعائي، وإني لأراك في قلبي، ولكني لا أجد سبيلاً إليك. في بيت النار سلخت بضعة عشر عاماً من الشباب ألتمس الزلفى إليك بين البخور واللهب فما بلغت إليك؛ وفي معبد المسيحية بين الهيكل والصليب وتماثيل القديسين ركعت ألتمس الزلفى إليك فما بلغت إليك. . . تنزهت يا رب أن تأمر بعبادة النار وإنها لجمر ودخان، وتقدست يا إلهي أن تكون عبادتي لك سجوداً للتصاوير وركوعاً للصليب، وخشوعاً لتمثال العذراء،