وحرصاً على جمع المال في القلال ليحرم منه الفقير والمسكين. . .!)
(ربي، سألتك الهدى فأنر سبيلي!)
وكانت الفتنة تعصف عصفها في كل مكان، والشهوات يتسلط سلطانها على كل نفس؛ والناس في الشرق والغرب، في فارس وقسطنطينية، وفي بغداد ودمشق، وفي الحبشة وبلاد العرب، تعيش عيش البهم: لا وازع من دين، ولا حرج من ظلم؛ فلم ينج من فتنة الشهوات إلا من عصم الله. . . والفتى (سلمان) من أشجانه في همّ ناصب، يتوزعه الشك واليقين، ويتعاوره الإيمان والكفر، ويراوح القلق بين نفسيه في وحدته واجتماعه؛ فما يجد له منجاة من أشجانه إلا الصبر والاستسلام حتى يجد لنفسه فرجاً من ضيق. . .
وكان ثمة أربعة من الرهبان جمعتهم على دين الرب عقيدة راسخة، وقلوب عامرة، وإيمان بالله وطيد؛ وكان لهم في كل عام مزار يجتمعون إليه أياماً ثم يذهب كل إلى واديه. كانوا من الصلاح والخير وصفاء النفس بقية من الحواريين المخلصين، عرفوا دين السلام عرفان الحق، فأقاموا على هدى المسيح خالصاً يعبدون الله لا شريك له؛ فاطمأنت نفوسهم على قلق الحياة، واستراحت قلوبهم على شغب الفتنة، فأصموا آذانهم عما ابتدع الرهبان في الدين وما زادوا ونقصوا، فبقوا على المسيحية الأولى حنفاء لله، يدعون إلى الله ما قدروا على الدعوة، أو يلزمون صوامعهم لتسبيح الديان
واستجاب الله دعاء (سلمان) فوصل بهم حبْله ليهدوه سبيل الرشاد
كانوا أربعة تفرقت بهم البلاد: فراهب في دمشق، وراهب في الموصل، وثالث في نصيبين، ورابع في عمُّورية من أرض الروم. قد تقدمت بهم السن حتى أشرفوا على الآخرة، ولكنهم جِدُّ حِراصٍ على الحياة، لأن لهم في الحياة أمنية موروثة يستشرفون إليها من بعيد
ولقي (سلمان الأصبهاني) أولهم في دمشق فلزمه، فلما صفا بينهما المورد جلس الراهب يتحدث إلى فتاه:
- (أيْ بنيّ، إنها فتنة الحياة للأحياء، ولكن صبراً صبراً يا بني؛ إن شعاعة من النور تلوح من بعيد، وإنه ليوشك أن يشرق بعدها صبح أزهر. هنا من هذه الصحراء سينبثق النور الأعظم الذي يغمر الدنيا ويشرق بالخير والسلام على البشرية كلها، إنه نبي قد أظل زمانه.