وانتفض الفتى وقد غمرته موجة من السرور فهزت أعطافه فمال على الراهب وقد أمسك بكلتا يديه يهزهما في فرح ونشوة وهو يقول:
(. . . نبيّ قد أظلّ زمانه؟ من هذه البادية؟ حدثني يا أبي إن حديثك لينفذ إلى قلبي بكل مسرات الحياة:)
وابتسم الراهب وربت على ظهر الفتى وهو يقول:(صبراً، صبراً يا بنيَّ. . . إن حديث هذا النبي لمسطور في فؤادي، وإني به لمؤمن قبل مبعثه، إنها لأمنية الحياة يا بني أن أعيش حتى أراه. . .!)
ولكن الراهب الشيخ لم تمهله المنية حتى يحقق أمله، فلم يلبث أن ذهب إلى ربه!
عاد السلام والأمن إلى قلب الفتى الفارسي، وتقشعت ظلمات الشك والحيرة في نفسه، ولكن الأمل الجديد الذي بعثته في نفسه كلمات الشيخ لم تدعه له أن يستقر، فقرر رحلة ثانية من دمشق لعله يعرف جديداً من راهب الموصل عن النبي الذي أتى وقته ليرسم للإنسانية الضالة حدود سعادتها في معاني البر والرحمة والمساواة!
فتىً لدْن العود غض الإهاب، يهاجر هجرتين في سبيل الله، من أصبهان إلى دمشق، ومن دمشق إلى الموصل، وليس معه مال ولا زاد، إلا الإيمان والتقى وقلب عامر بمحبة الله؛ وقد خلف وراءه المال والأهل والسيادة، وأباً لم يكن أحد أحب إليه من ولده!
- (سيدي!)
- (ممن أنت يا فتى؟ إن في وجهك لَنَضْرةَ أبناء الدهاقين والسادة؛ ولكن عليك من وعثاء السفر مثل أبناء السبيل!)
- (سيدي!. . .)
- سمعاً يا بني!)
- (أنا رسول (فلان) إليك - يرحمه الله - أفتأذن لي أن أقيم عندك لآخذ عنك من أمور ديني. . .؟)
- (سهلاً وكرامة يا ولدي، بارك الله عليك!)
- (أبي، إن الفتنة لتعصف عصفها، وإن شهوات الناس لتبلغ بهم مبلغ الحيوان، أفترى