ونهيه، ويعجب التلاميذ وتتحرك في نفوسهم طبائعهم العابثة فتستبق القهقهات إلى شفاههم ثم تجمد عليها يردها خوفهم من هذا المعلم العابس وخشيتهم إياه؛ ثم تغلبهم طبائعهم فينفجرون ضاحكين صائحين. . . فينتبه المعلم الشاب، ويزعق فيهم فيبكون ويسكتون، ويتكرر ذلك ويقصه الأولاد على آبائهم وأهليهم فيكذبونه بادي الرأي، ثم يصدقونه ثم يشيعونه في البلد، فيصبح ملء الأفواه والأسماع أن كليباً المعلم الشاب قد أصابه طائف من الجن، فيأسفون ويحزنون لما عرفوا فيه من البلاغة وما آنسوا فيه من الرجولة والحزم، ولكنهم لا يعجبون وهل يعجب الناس من معلم يجن؟ إنما يعجب الناس من المعلم إذا بقي عاقلا وهو يعاشر أبداً هؤلاء التلاميذ. . .
وفي ذات صباح غدا التلاميذ على مدرستهم فلم يجدوا معلمهم الشاب، وكان من دأبه أن يسبقهم. فانتظروه فلم يحضر، فذهبوا يطلبونه في بيته. فعلموا أنه باع بيته ليلاً وقبض ثمنه، ففتشوا عنه في كل مكان يظنون أنه يأوي إليه. فتشوا في كل زقاق من أزقة القرية، وفي كل ذروة من هذه الذرى القريبة منها، وكل صخرة من هذه الصخور القائمة من حولها. فلم يجدوا له أثراً!
ولما راح الرعاة في المساء سألوهم عنه، فقالوا: لقد رأيناه منذ الصباح ينحدر وحده، يقفز من حجر إلى حجر، فحييناه فلم يرد علينا تحيتنا لأنه كان ذاهلاً، قد تعلق بصره بالأفق النائي. . . ونظن أنه سار يومه كله، ولن تدركوه أبداً لأنكم لا تدرون أي سبيل سلك!
فاسترجع أهل القرية واستعبروا أسفاً على أن جُن هذا المعلم الشاب، وأيقنوا أنه سيموت في هذه البادية وحيداً فريداً شريداً. . .
سار كليب يومين كاملين على غير ما طريق مسلوك أو جادة واضحة، يبتغي المنازل والمنحدرات، تسلمه كل ذروة إلى التي تحتها، وكل سفح إلى الذي يليه، لا يحس تعباً ولا يخشى أذى لأن آماله قد ملأته شجاعة وصبراً؛ ثم إنه كان في أول الطريق فهو لا يزال نشيطاً قوياً، ولا يزال زاده كاملاً؛ ثم إن الحر لم يكن قد غمر هذه الجبال وهي بعد في أواسط الربيع. فلما بلغ الصحراء - والصحراء لا تعرف، إذا تسعرت شمسها وحميت رمالها، ربيعاً ولا خريفاً - ولما أوغل فيها واحتواه جوفها، ونفد ما حمل من الزاد، والتهبت شمس الضحا التهاباً، وغلى الهواء غلياناً. . . جففت هذه الشمس أحلامه الندية،