للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وأحالتها بخاراً، وطيرت أمانيه من رأسه ووضعت عقله في جلده ومعدته، فواجه الحقيقة الواقعة؛ فإذا الصحراء الرحيبة الرهيبة تضيق به، وإذا هو يرى حيثما تلفت شبح الموت المروع بعظامه البادية وفكيه المرعبين وجمجمته الفارغة، يتراءى له على الأفق البعيد، يرقب أن يعانقه قبل أن يصل إليه، ويتمثل ذلك في خاطره فيشعر ببرودة هذه العظام البادية تسري في جسمه، ويتصورها ملتفة حول عنقه فيحس بالقشعريرة تمشي في أعضائه، فيغض بصره عن الأفق فيتراءى له الشبح في هذه الرمال، ويخيل لنفسه أنها ليست إلا قبراً مفتوحاً، فيكاد الخوف من الموت يهوي به ويقصف ركبتيه، فيرفع نظره عن الأرض فيتراءى له الشبح في هذه الشمس التي تسكب عليه وعلى البادية وهج جهنم، فيغمض عينيه فيتراءى له الشبح في الجوع الذي يلهب أمعاءه والعطش الذي يحرق جوفه والضلال يملأ يومه وغده. . . ثم يزول النهار ويشتد أوار الشمس، ويبلغ لسان لهيبها قرارة دماغه، فينسى الجوع والعطش ولا يبغي إلا شبراً من ظل. . . فيعدو كالمجنون هاهنا وهاهناك؛ والصحراء مبسوطة كالكف ليس فيها غار يأوي إليه، ولا صخرة يستظل بها، ولا بشر يلجأ إليهم، ولا شجرة يستذري بها؛ فينبش في الرمل بيديه وأظافره ليجد في بطن الأرض رطوبة يدس فيها أنفه ليربح رائحة الحياة، ويوالي النبش بجنون ثم يطمر رأسه في الرمل فلا يزيد على أن يدفن نفسه حيّاً في رماد حار. . . فيجفو الرمل وينطلق يعدو حتى ينقطع ويعلوه البهر ويحس بأنه سيختنق، فيقبل من ضيقه يلطم وجهه بكفيه، وينتف شعره بيديه. . . ويلعن المجد والسلطان ويلعن هذه الصحراء ويلعن نفسه حين استجاب لهذه الحماقة فخاض الصحراء وألقى بنفسه في جوفه الملتهب. . . يندم أشد الندامة، ويتمنى لو وجد إلى العودة سبيلاً، وهيهات أن يجد إلى العودة من سبيل، لأن بينه وبين القرية هذه السفوح التي لا آخر لها، وهذه الصحراء وهذه الأودية، فإذا قطعها واستطاع أن يعرف طريقه بين آلاف التلال المتشابهة وآلاف الصخور المتشاكلة لم يعرف طريق النجاة من سخرية قومه وهزء صبيانه، وهو ما لا يطيقه أبداً ولا يصبر عليه، ويرى الموت أخف منه حملاً وأحلى مذاقاً. . . وراح يذكر تلاميذه الصغار وطاعتهم إياه وحبهم له، ويذكر بغضاءهم وعصيانهم، ويذكر براءتهم وسذاجتهم، ويذكر خبثهم وشيطنتهم، ويذكر لينهم ويذكر قسوتهم؛ فإذا هو يشعر بالحب لهم، ويغمره هذا الحب

<<  <  ج:
ص:  >  >>