- وفر عليك دراهمك، إنا لا نرزؤك شيئاً، أنت في حمى هذا السيد، فاركب جملك راشداً
ويطغى الفرح على نفس المعلم الشاب، حين يقدمون إليه هذا الجمل القوي البازل، وينسيه أن يسأل عن هذا السيد الذي أصبح في حماه، وأن يشكره. ويعلو متن الجمل ببراعة الأعرابي وخفة الشاب. . . ويسير به الجمل، وهو يقلب بصره في هذه القافلة العظيمة، فلا يستطيع أن يدرك به آخرها، أو يحيط بها، ويأخذه العجب حين يرى من حوله مدينة كاملة برجالها ونسائها وبيوتها وحاجاتها وجندها وحماتها، تنتقل تحت عين الشمس. . . ثم يشرع الحادي بأغنيته فيصغي إليها كليب حالماً مأخوذاً. . .
طوت القافلة الفلوات، تتجنب الطرق المسلوكة، وتنأى عن القرى القليلة، القائمة في الصحراء بين دمشق ويثرب، لئلا تجد فيها ما تخشاه في هذه الأيام المضطربة الحافلة بالثورات والحروب. . . وكان أصحابها دائبين ينزلون النهار إلا أقله، ويمشون أكثر الليل وجانباً من النهار، يتجنبون حر البادية، ووهج الشمس، حتى رأوا (بصرى) تلوح لهم في اليوم السادس عشر، يبسم طيفها خلال أشعة الطفل، فوثبت إليها قلوبهم، وطارت أمانيهم، وجدت القافلة المسير، دأب المسافر إذا دنا من بلد، أو شارف غاية. وكان المعلم الشاب أشدهم طرباً وفرحاً، فطفق يحدق في هذا الطيف، ويتأمل هذه الرمال، يستمتع بأحلامه البهيجة الحبيبة، فيرى الرمال إذ تمتد في اتزان عجيب، من قلب الجزيرة إلى أسوار (بصرى) يحملها هذا التيار المنبثق من قلب بلاد العرب، فيصبها في أرض الشام فتغمرها بروح الجزيرة، وتعلمها معاني الرمل، ومن معاني الرمل أن تكون الأمة مجتمعة كالرمل، كثيرة كالرمل، خالدة كالرمل، صابرة كالرمل. . .
ويغيم طيف المدينة ويظلم ثم يختفي في ثنايا الليل، ولكن المعلم الشاب لا يزال ممعناً في التحديق، قد نسي القافلة، وغفل عن الزمان، فلم يبصر اختفاء المدينة، وإنما كان يبصر أحلام الجزيرة، التي استهوته حتى استسلم إليها. ووضع في يدها قياده فساقته إلى عالم ناء لا يدرك العقل قراراته، ولا يبلغ غوره، عالم يفيض بالفتون والجمال والسحر، فظل يستمتع بفتونه وجماله أمداً طويلاً. . . ثم قادته الذكرى إلى ماضي الجزيرة، فإذا هو يراها ممحلة جدبة، قد تعرت من الخضرة، كما تعرت من الحضارة، وغاضت فيها ينابيع الماء، كما غاضت ينابيع العلم. . . ثم يرى رجلين يسيران من (أم القرى) إلى تلك (المدينة)