(المدائن) التي كان يتحدث بها العجائز من قومه عن العجائز، وتخيل له من جلال الخليفة وضخامة سلطانه ما يصغر معه ملك كسرى ويهون. . . ولم لا؟ وملك كسرى كله عمالة من عمالات الخليفة، وولاية من ولاياته!
كان المعلم الشاب يكد ذهنه ليتصور دمشق، ويتبين طريقه إلى النجاح فيها، وكان يحسب لطول ما عزم على السفر وتردد فيه، ولعظم ما لاقى من الأهوال والمشاق، أنه ليس بينه وبين المجد والولاية إلا أن يهبط دمشق، فإذا هو والٍ أو أمير. . .
وكانت القافلة قد علت نشزاً من الأرض فانكشفت أمامها دمشق العظيمة أقدم بلدان الأرض وأجملها، وهي في مثل حلة العروس يضحك في أعطافها الجمال تميس بثوب العرس الأبيض الشفاف الذي نسجته أكف الربيع من زهر المشمش الهفهاف تموج في خديها دماء الشباب ظاهرة في زهر الدرّاق الأحمر الفاتن، وعبق أزهارها يعطر الجو كله، الأرض والسماء والجبال والصحارى المجاورة. . . فأخذ كليب بها أخذاً ورقص لها قلبه، وفتن بها فتوناً. ومنذ الذي يرى غوطة دمشق - وهي في ثوب الربيع - ثم لا يرقص لها قلبه ولا يفتن بها فتوناً؟ ومنذا الذي يقطع عرض الفلاة حيث يعتد ظل الصخرة القائمة جنة حادرة، ويرى الحشيشة الخضراء روضة ناضرة، ويرى البئر الآسنة مورداً صافياً. . . ثم يطل على الغوطة جنة الأرض حقاً وروضة الدنيا بأشجارها المزهرة، وطيبها وعطرها، وفتونها وسحرها، ثم لا يجن بها جنوناً؟ وهل عد العرب الغوطة إحدى الروائع الأربع ' في متحف الطبيعة إلا بعد نظر وفكر؟ كان كليب سابحاً في أحلامه، وهو أشد ما يكون بها استمتاعاً حينما ارتفع هذا الغبار من ناحية الشرق عالياً عريضاً. راع القافلة فوقفت تنظر إليه مذعورة، فجفا أحلامه ووقف مع القافلة ينظر، فإذا الغبار يعلو ثم تضربه الرياح فيتفرق، ثم يعود فيجتمع. . . ويفزع رجال القافلة الكبيرة، ويظنون الظنون، ويصغي كليب إلى حديثهم فيفهم منه أنهم لا يدرون ماذا يراد بهم. ولا يعلمون ما هذا الغبار، ويوغلون في الحديث ويتشقق بينهم، فيكشف لكليب عن أشياء كثيرة لم يكن يعرفها وهو في قريته العالية. . . يعلم كليب أن الدولة في أزمة من هذه الأزمات الخطرة التي تعرفها الدول حين تعصف بها عواصف الانقسام والحرب الداخلية، وأن عبد الملك قلق مسهد لا ينام الليل إلا لماماً، فإذا هجع رأى شبح ابن الزبير ينقض عليه فقام مرتاعاً يخشى أن ينتزع منه الشام