ومصر كما انتزع الجزيرة كلها والعراق وخراسان، وصار الحاكم المطاع في شرق البلاد وجنوبها وطالت مدته وامتد كلمته. . .
ثم تنقطع أحاديث القوم، وينظرون إلى الغبار الداني وسيوفهم في أيديهم، ومقاتلتهم أمامهم مستعدون للقتال، فينشق الغبار عن الراية الأموية التي يبعث مشهدها الطمأنينة في نفوسهم، ويخرج من تحته بضع مئات من جند الشام يخلطون القافلة الكبيرة ويكشفون أمرهم على عجل، فيعلم رجال القافلة أنهم حيال فرقة من حرس الصحراء، خرجت من دمشق منذ أسبوع لتجول في هذه الفلوات القريبة، تقيم العواصم والمخافر ثم تعود لتفسح المجال لفرقة أخرى، فتجاوزت حدها، وأمعنت في الضرب إلى الجنوب حتى دخلت في أرض ابن الزبير والتقت بهذه الفرقة الحجازية التي كسرتها وردتها على أعقابها، ولحقتها لتقضي عليها
وهز هذا الحديث القصير رجال القافلة، فاصطفوا للقاء الفرقة الحجازية التي دنا غبارها، وتلفتوا يفتشون عن الرجل الذي يقودهم إلى المعركة ويشق لهم طريق الظفر، ويلزمهم طاعته إلزاماً، ولن يكون هذا الإلزام إلا بقوة الشخصية، وبلاغة اللسان، وكبر النفس. وكانت ساعة انتظار وتردد توجهت فيها الأنظار إلى كثير من السادة، فخيبوا رجاء الناس فيهم، وأوشكت الفرقة الحجازية أن تصل. وهم على جمودهم وانتظارهم، عند ذلك تقدم كليب الذي كان يغالب نفسه ويقسرها على السكون ويمسك بركان حماسته أن ينفجر، تقدم حين عجز عن ضبط نفسه، ففتح له طريقاً وسط الفرسان، وقد رأى أمانيه أدنى إليه من أنفه، ومضى فيه مضي السهم حتى صار في رأس القوم، وهم يعجبون منه، وينتظرون أن يقودهم كل رجل في القافلة إلا هذا الشاب الذي أمضى طريقه كله صامتاً حالماً لم يتحدث بحديث، ولم ينطق بكلمة، والذي يظنونه عيياً لا يبين ولا يعرب عن نفسه. ولكن عجبهم لم يطل، فإن الفتى انطلق يخطب فيهم خطبة صارخة مجلجلة تلتهب كلماتها التهاباً، وتحرك جملها الجلاميد الصم، وتدع الجبان المخلوع القلب وهو البطل الحلاحل. وكان صوته القوي يدخل إلى حبات القلوب فتصيبها منه رجفة كما يرتجف الرجل يمسك بسلكة الكهرباء؛ وكانت إشارات يده وسمات وجهه تنطق بمعانيه قبل أن ينطق بها لسانه، فتحرك الناس وتقودهم حتى كأنهم معلقون بإصبعه. ولم ينته المعلم الشاب من خطابه حتى كان