القوم قد خلعوا نفوسهم التي أضناها طول السفر، وأرمضها حر الصحراء، وأضعفها التردد والإحجام، ولبسوا نفوساً جديدة ماضية لا تعرف التردد، قوية لا تعرف التعب، مؤمنة بالظفر لاشك عندها فيه. ولم ينته من خطابه حتى كان الجند الحجازيون قد وصلوا. فأطلق من فيه صرخة الحرب، وأغار كالقضاء النازل ينشد أنشودة الموت والجند ومسلحة القافلة من ورائه تردد النشيد فتميد له البيد. فلم تكن إلا جولة واحدة حتى آثر الحجازيون السلامة، ففروا لا يلوون على شيء. واستراحت القافلة حيناً. ثم أخذت طريقها إلى دمشق يقدمها كليب (المعلم البطل)
كانت دمشق في زلزال شديد، وكان أهلها في هيجان واضطراب، ينتظرون المعركة الفاصلة بينهم وبين ابن الزبير، لينجوا العالم الإسلامي من هذا الانقسام الذي ينكره الإسلام ويأباه أشد الإباء؛ وليعود إلى الوحدة التي جعلها أساس الحياة الدنيوية للمسلمين، كما جعل التوحيد أساس الدين. . . ولكن أهل دمشق فزعون مشفقون على الخلافة الأموية أن تنهار وتتحطم وهم بُناتها وحُماتها، يرقبون الأحداث، ويتسقطون الأخبار، ويُعدون نفوسهم للتضحية الكبرى في سبيل المبدأ القويم، والغاية الساذجة كدأب المسلمين في كل عصر وآن.
وكان (قصر الخضراء) مثوى الخلافة، وسرة الأرض، في حركة دائمة؛ فمن مجلس يجمع للشورى، إلى ألوية تعقد للدفاع. وكذلك كان قصر (مستشار الدولة روح بن زنباع) الذي أَمّه كليب المعلم الشاب صبيحة وصوله إلى دمشق، يقوده إليه زعيم الجند الذين أنقذهم كليب، وأعانهم على عدوهم، ليلقى عنده روح جزاءه.
وكان قصر روح قائماً في ظل المسجد، دانياً من باب الفراديس يجري من تحته بردى متوارياً في حمى القصر، ثم يظهر كرة أخرى، يتحدر ويهدر هديراً سائغاً عذبا، وسط جنة دانية القطوف متشابكة الأفنان، قد اتخذ فيها مجلس يقوم على سيقان من خشب الجوز المنقوش، منغمسة في بردى تغسلها أمواهه دائماً وتداعبها أمواجه الصغيرة، فتقرصها ثم ترتد عنها ضاحكة مقهقهة، وسماء هذا المجلس أغصان الأشجار قد تعاطفت وتعانقت، يزينها الياسمين بزهره الناعم العطر، وحول هذا المجلس إطار من الورد والنسرين والسَّيْسنبر والنرجس والبنفسج، فهو جنة تنعم فيها العين بهذه الأزاهير المؤتلفة الألوان،