المختلفة الأشكال، تتمايل وتتهادى حين يمسها هذا النسيم الرخيّ، فيفوح من أعطافها هذا الشذا الطيب، الذي ينعم الأنف بريّاه، كنعيم الأذن بهذه (الاوركستر) الإلهية، التي تعزف ألحان الفطرة الجميلة الساحرة على حناجر البلابل والشحارير؛ وبردى فوق هذا كله يعزف لحنه السرمدي، وتنعكس على صفحته المتموجة ألوان الزهر، فيكون منها لوحة فنية تزري بألوان الغروب في لجةّ البحر.
والقصر طبقتان من الرخام الأبيض والأسود والمجزّع، له رواق على بابه، قائم على أساطين من المرمر قد استفرغ صنعها وتزينها عبقرية البنائين والمهندسين فبدت آية معجزة في لغة البناء تحس لدقتها وأحكامها كأنها هي حية ناطقة نَشوى بخمرة هذا الأريج العطر الذي يفوح من أشجار البرتقال والليمون المطلة بالزهر التي تنافس بعطرها الورد والياسمين، وأشجار المشمش التي تظهر بزهرها الأبيض الشفاف كأنما هي في حلّة في الثلج الحيّ المعطر، وأشجار الدرّاق التي تبدو بزهرها الأحمر كأنما هي محبّ ورّد وجنتيه الخجل، وأشجار الحور سكرى تميس بثوبها الجديد الذي خلعته عليها أيدي الربيع. . . يتوّج هذا كله منارة المسجد الشاهقة في السماء، تنشر في الدنيا كلها العطر السماوي الخالد، وتريق عليها السمو والجلال، فتتطهر الأرض من الشرك والرذائل، وتتطهر النفوس من المطامع والشهوات، وتهبُّ على الوجود نسمة من نسمات الجنة حين يخرج منها النداء:(الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله!)
كانت دمشق (وما تزال، وستبقى دمشق) جنة الأرض، ودرّة تاجها، وواسطة عقدها، ليس في الأرض أجمل منها ولا أحفل بكل محبوب ساحر أخاذ، مما يشمّ أو يرى أو يسمع. . . وكان قصر روح من أجمل ما في دمشق، وكان فوق الجمال جليلاً فخوراً بساكنيه، يملؤه الحجاب والجند وذوو الحاجات، فلا ينصرفون إلا وافرين غانمين شاكرين. كان محط الجمال والجلال، ولكن كليباً (المعلم البطل) لم يحفل شيئاً من هذا، ولم ينظر إليه، لأن من عادته ألا ينظر إلا أمامه، لا يلتفت يمنة ولا يسرة لئلا يشغله عن غايته شاغل، أو يعوقه معوق. وكانت آماله هي غايته، فمضى إليها قُدُماً، لا يبصر إلا ظهر الجندي الذي سبقه ليدّله على الطريق في هذا العالم الصغير، حتى دخل على المستشار. .
ندع كليباً في حضرة روح بن زنباع مستشار الدولة، ونقفز قفزة واحدة إلى واسط مدينة