على حضارة عريقة، في حين أن المنازل التي سكنها أمراء ألمانيا وفرنسا وإنجلترا لم تكن تفضل حظائر الماشية في شيء، فهي بلا مداخن أو نوافذ، وكان المخرج الوحيد الذي يسلم إلى فضاء الجو كوة في أعلى السقف يتصرف منها الدخان)
ولقد وصف المؤرخون قصور أمراء الأندلس وصفاً يقصر عن إدراك حقيقته الخيال؛ فهل علمت أن قصورهم كانت مجهزة بأنابيب معدنية لتوزيع الماء على الأجنحة المختلفة، وأن الماء كان يجري دافئاً في أثناء الشتاء وبارداً مثلوجاً في أثناء الصيف، وأن جهازات التهوية الصناعية كانت في الأشياء التي اخترعها العرب في فن البناء واستخدمت لأول مرة في قصور الأندلس؟ قيل إن من المفاخر التي كان يزهى بها أصحاب القصور ما تحوي من المكتبات النادرة. ويكفي أن نعرف أن مكتبة الخليفة الحاكم رصدت كتبها في فهرس بلغت مجلداته أربعين مجلدا
كان قصر الحمراء مقر عبد الرحمن الثالث وما تزال آثاره حتى اليوم تحفة نادرة من تحف الفن العالي. كانت واجهته مقامه على ١٢٠٠ عمود من الرخام جلبت من مختلف بقاع العالم المتمدين: من اليونان وإيطاليا وأفريقية؛ وكان البهو الأكبر مغشى بالذهب الخالص؛ وكان بالقصر ٦٣٠٠ من الحاشية والخدم، ومن حوله ثكنات بها ١٢. ٠٠٠ من الحرَّاس لباسهم من الحرير ومعاطفهم مطرزة بالذهب.
كل هذا المجد يصغر ويتضاءل إلى جانب ما خلف ابن باجة، وابن الطفيل، وابن رشد وغيرهم من صور الفكر التي أصبحت بعد زمان النور الذي استهدى به العقل الأوربي وعنه أخذ ليؤسس نهضة أوربا الحديثة.
ثم نمنا واستيقظ الزمان، ورحنا في سبات وعجلة الدهر من حولنا تدور، حتى أصبحنا ولسان حالنا يقول مع شاعرنا حافظ:
لم يبق شيء من الدنيا بأيدينا ... إلاَّ بقية دمع في مآقينا
كنا قلادةَ هذا الدهر فانفرطت ... وفي يمن العلا كنَّا رياحينا
كانت منازلنا بالعز شامخة ... لا تطلع الشمس إلا في مغانينا
والشهب لو أنها كانت مسخرة ... لرجم من كان يبدو من أعادينا
فلم نزل وصروف الدهر ترمقنا ... شَزْراً وتخدعنا الدنيا وتلهينا