ومما انحدر إلينا؟ أن إسحاق بن حنين قد ترجم إلى العربية - فضلاً عن الطب - كتباً من أشهر ما حوت حكمة الأقدمين؛ منها السوفسطائي لأفلاطون، والميتافيزيقا والروح (ده أينما) والكون والفساد، وإرمانوطيقا، أو باري أرمانياس أي العبارة لأرسطوطاليس؛ كما نقل تعليقات عن فرفوريوس الصوري والاسكندر الأفروديسي وأمونيوس.
وقيل: كان من عظماء المشارقة في عهد نهضتهم قسطا بن لوقا وأبو بشر متي بن يونس ويحيى ابن عدي وابن ناعمة وثابت بن قرة وجابر بن حيان والفارابي وابن سينا والغزالي وغيرهم.
هذه إثارة مما كان في الشرق، بل إشارة إلى بعض ما وصل إلينا من أخبارهم وما انحدر إلينا من أحوالهم بعد أن اتخذ هولاكو من كتبهم قنطرة عبر عليها أحد الرافدين.
ولك أن تقيس ما انبعث على يد العرب والإسلام من أنوار العلم والمدنية، على ما بعث أهل أوربا في ذلك العهد من ظلام على أهل الشمال.
أما في الغرب - أي في بلاد الأندلس - فقد أرسل العرب على ذلك العالم الميت المظلم الذي نعرفه الآن باسم أوربا أول شعاع من أشعة النور. وليس لنا أن نأتي من عندنا بكلام نبين به عن أثرهم في تحضير العالم الحديث بل نترك الكلام للأستاذ (درابر) في كتابه (نماء أوربا العقلي ص٣٠ ج٢) قال:
لما ثبت قدم العرب في بلاد الأندلس، بادروا إلى العمل على نشر العلم والحضارة، وقد نقلوا معهم إلى الغرب جميع المبادئ التي قامت عليها حضارتهم في أسيا. وكان أول ما التفتوا إليه نشر المعرفة وتظليلها بحمايتهم. وقد ازدهرت في عهدهم المدن وأقرب مثال لها قرطبة، فقد كانت تتألف من مائتي ألف بيت ويسكنها مليون من النسمات. ويكفي أن تعرف أن شارعها الأكبر كان يطول عشرة أميال ويضاء ليلاً للمارة بمصابيح كبيرة، وذلك مشهد من مشاهد الحضارة لم تعرفه مدينة لندن إلا بعد ذلك العهد بسبعمائة عام. وكانت طرقاتها مرصوفة بالأحجار في حين أن باريس ظلت قروناً بعد حضارة العرب في الأندلس مبركاً للمياه والأوحال التي تغوص فيها الأرجل إلى الركب في فصل الشتاء. ولم يقتصر الأمر على قرطبة، بل إن غرناطة وأشبيلية وطليطلة كانت مدناً تعد أشباهاً لقرطبة ونظائر. وكانت قصور الأمراء مثلاً من الفخامة الشرقية، بل كانت متاحف للفنون الرفيعة وعنواناً