للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وتمكن حب الله وحب رسوله من قلبه، وهو مع كونه من خيار الأنصار قولاً وعملاً ومع فرط محبة النبي له، شديد الحسرة على أنه لم يكن ممن أوذي في الله بمكة، وأنه فاته بذلك شرف عظيم استأثر به المهاجرون الأولون؛ ولم يكن يعزيه إلا أنه يتلبث حتى تكون فرصة سعيدة يخرج فيها عن حق الله في ماله وأهله ودمه

وكانت النفرة الأولى إلى بدر، حيث تصاول الخير والشر كفاحاً، وحيث وقف المؤمنون صفاً واحداً سلاحهم التقوى وإيمان بالله لا يتزعزع، واثقين بأنه لا بد ناصرهم مع قلتهم وضعفهم على الشرك وأهله الذين خرجوا بطرين مستطيلين، عادين على الله وعلى رسوله والمسلمين. ولقد صدق المسلمون يومئذ الحملة وأخلصوا النية، وأرخصوا في سبيل الله دماءهم وأموالهم فنصرهم الله النصر المؤزر، ورجعوا إلى المدينة مغتبطين بما أذل الله من الباطل ورفع من الحق، وما مكّن لهم من صناديد قريش حتى أوسعوهم قتلاً وأسراً.

وكان صاحبنا أنس قد عاقته العوائق عن شهود بدر، فلما بلغه ما كان ثمة من جهاد واستماتة، وما حل بالقوم من رحمة الله ورضوانه، حزن حزناً ما حزنه أحد قط، وكلما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم ما خص الله به أهل بدر من الفضل والخير، تقطع قلبه حسرات على ما أخطئه من فرصة كان يترقبها بفارغ الصبر منذ عرف الإسلام، لذلك أراد أن يأخذ على نفسه عهداً يشهد عليه الله والنبي والمسلمين، حتى لا يصيبه في المستقبل ما أصابه في الماضي؛ فهرع إلى رسول الله مُنصرفَه من بدر وإن سيماءه لتفصح عن ندم شديد وعزيمة صادقة وحماسة متأججة، عرف ذلك في وجهه كل من رآه، فلما وقف على النبي في أصحابه قال له:

(يا رسول الله! غبت عن أول قتال قاتلت به المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرينّ ما أصنع).

لبث أنس ينتظر الفرص حتى بلغ أهل المدينة ما جمع لهم أبو سفيان من الخيل والرجلْ، وما طابت به نفوس المشركين من ربحهم في العير لينفق على حرب النبي وأصحابه، وكان ذلك خمسين ألف دينار. وما كانت قريش ولا حلفاؤها لتسمح بهذا وهم التجار الحراص على المال، لولا ما ملأ صدورهم من الغيظ والحنق والكره للمسلمين على ما فعلوا بهم يوم بدر.

<<  <  ج:
ص:  >  >>