للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

غار حِرَاءَ، فينقطع فيه للعبادة، وكانت قريش تفعل ذلك في جاهليتها، ولم يبتدع منه صلى الله عليه وسلم شيئاً جديداً لم يكن يفعله أحد من قومه.

وكان يخلو بهذا الغار فيتعبد فه الليالي ذوات العدد، فتارة عشراً، وتارة أكثر إلى شهر، ويأخذ لذلك زاده، فإذا فرغ رجع إلى زوجه فيتزود لمثلها.

وهذا الطور آخر أطواره قبل النبوة، فإذا أردنا أن نستخلص منها شيئاً من خصائصه صلى الله عليه وسلم فيها وجدناه رجل عمل يعتمد على نفسه، ويأخذ في ذلك بما اشتهر به قومه من الحذق في التجارة، والرحلة فيها إلى الأقطار القريبة والنائية، لا يشغلهم عنها شاغل، ولا يهتمون بغيرها مما كان يهتم به غيرهم من العرب، حتى عيرهم بهذا بعض شعرائهم فقال:

ألهي قُصيًّا عن المجد الأساطيرُ ... ورشوةٌ مثل ما ترشى السفاسيرُ

وأكلها اللحم بحتاً لا خليط له ... وقولها رحلت عيرٌ أتتْ عيرُ

وكان في هذه الحياة العملية من أحسن قومه خلقاً، واصدقهم حديثاً، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم عن الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، حتى كان من أفضلهم مروءة، وأكرمهم مخالطة، وخيرهم جواراً، وأعظمهم حلماً، فأحبوه وركنوا إليه ولقبوه الأمين حتى غلب على اسمه هذا اللقب.

وكان على علمه بفساد ما عليه قومه من عبادة الأصنام وما إليها يكتفي من هذا بالعزلة التي أخذ نفسه بها، ويأخذ بما يأخذ به بعض الناس من الاهتمام بإصلاح نفسه وعدم الاهتمام بإصلاح غيره، وكأنه كان يضن بذلك الحب الذي يحبوه قومه به أن يفسده بتخطئتهم، وتسفيه ما ألفوه من عبادة أصنامهم، فمضى لا يهمه إلا أمر نفسه، ولا يعني بشيء من أمر غيره، اللهم إلا بعض الأعمال الصالحة التي كان يقوم قومه بها، فكان يشاركهم فيها ويقوم بنصيبه منها، كما حصل منه في حلف الفضول بدار عبد الله بن جُدْعان التَّيمي، وكان المتحالفون فيه بني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف، وبني أسد بن عبد العزّى، وبني زهرة ابن كلاب، وبني تيم بن مرَّة؛ تحالفوا وتعاقدوا ألا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو غيرهم من سائر الناس ألا قاموا معه حتى ترد إليه مظلمته، فحضر محمد صلى الله عليه وسلم هذا الحلف مع أعمامه وقال فيه بعد رسالته: (لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار

<<  <  ج:
ص:  >  >>