للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حُمُرَ النَّعَم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت)

ولم يعن صلى الله عليه وسلم في هذه الأطوار بشيء من الفصاحة والبلاغة، ولم يحاول أن يكون بين قومه خطيباً أو شاعراً، بل يكره الشعر كرهه لعبادة الأصنام، مع أن الجزيرة العربية كانت تعج في ذلك الوقت بالشعراء والخطباء، ولكن قريشاً كانت لا تعني بشيء من ذلك، وإنما كانت تعني بالمال والتجارة عناية أبناء عمومتهم من اليهود، حتى كان حظها من الشعر دون حظ غيرها من القبائل، وإن كانت لغتها أفصح اللغات العربية، وإن كانت مواسم الأدب وأسواقها لا تقوم إلا في بلادها.

وقد قضى محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الأطوار أربعين سنة من عمره، قضاها على ما وصفناه في حياة هادئة، وعيشة مطمئنة، لا تحدثه نفسه فيها بشيء مما حصل منه بعدها، ولا تطمح في أميتها وقناعتها إلى أكثر مما وصلت إليه فيها.

الطور الرابع: وقد بلغ صلى الله عليه وسلم أربعين سنة فإذا به ينتقل فجأة من تلك الحياة الهادئة إلى حياة عنيفة يشتد فيها الخصام بينه وبين قومه، وينقلب ما كان فيه من عدم المبالاة بأمرهم حرصاً على مودتهم إلى اندفاع شديد نحو الاهتمام بأمرهم، وإن أدى هذا إلى انقطاع تلك المودة التي كان يحرص عليها، وكان في أهنأ ما يكون من العيشة بها بينهم؛ وإذا به وهو ذلك الأمي الذي لم يجلس إلى معلم، ولم يشتغل في تلك الأربعين سنة إلا بما ذكرناه من التجارة ورعي الغنم، ينقلب إلى خطيب لا يدانيه خطيب في فصاحته، وعالم لا يدانيه عالم في علمه، وبيده كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يدعو به الناس أجمعين، ويهديهم إلى دين الله الصحيح، وترك ما دخله من التغيير والتبديل والتحريف، ويجلب على نفسه بهذا عداء الوثنية وزعمائها من قومه، وعداء المجوسية وزعمائها من الفرس وأكاسرتها، وعداء النصرانية وزعمائها من الروم وقياصرتها، وعداء اليهودية وزعمائها من اليهود وأحبارها.

فما هذا كله؟ وما هذا الذي جعل من محمد الأمين بين قومه عدوهم اللدود وخصمهم العنيد؟ لقد اختلفوا عند بناء الكعبة وهو ابن خمس وثلاثين سنة في الحجر الأسود أيهم يرجعه إلى موضعه من الكعبة، ثم اتفقوا على أن يحكموا بينهم أول داخل إليهم، فلما دخل إليهم قالوا: هذا الأمين رضيناه، هذا محمد، فبسط رداءه ووضع الحجر عليه، وقال: لتأخذ كل قبيلة

<<  <  ج:
ص:  >  >>