للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بناحية من الثوب، وأمرهم برفعه حتى انتهوا إلى موضعه، فأخذه ووضعه فيه.

فما هذا الذي جعله بعد هذا يعرض نفسه لأن يتهموه بكل شنيعة من القول؟ فيقولوا عنه مرة إنه ساح، ومرة إنه شاعر، ومرة إنه كاهن، ومرة إنه مجنون.

إنه لم يفعل هذا من نفسه، ولو أنه خلى ونفسه لمضى في تلك الحياة الهادئة إلى نهاية أمره، وإنما كان يعمل في هذه الحياة الجديدة بأمر طرأ عليه، وغير من نفسه ما شبت عليه في تلك الأربعين السنة.

فبينما هو في غار حراء قائم في بعض الأيام على الجبل إذ ظهر له شخص وقال: أبشر يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله إلى هذه الأمة، ثم قال له أقرأ، قال: ما أنا بقارئ، لأنه كان أُمياً كما سبق، فأخذه فغَطّهُ بالنمَطِ الذي كان ينام عليه حتى بلغ منه الَجهْد، ثم أرسله، فقال: أقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، فأخذه فغطه ثانية ثم أرسله فقال: أقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، فأخذه فغطه الثالثة ثم أرسله فقال: (أقرأْ باسم ربكَ الذي خلقَ، خلقَ الإنسان من علقٍ، أقرأْ وربكَ الأكرمُ، الذي علمَ بالقلَم، علمَ الإنسانَ ما لمْ يعلمْ).

فرجع بها صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده مما ألم به من الروع، فدخل على خديجة زوجه فقال: زمّلوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه روعه، فأخبرها الخبر، وقال لها: لقد خشيت على نفسي، فقالت له: كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصِل الرَّحِم، وتحمل الكلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فلا يسلط الله عليك الشياطين أو الأوهام، ولا مراء أن الله اختارك لهداية قومك.

ثم ذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان امرءاً قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فكان يكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره خبر ما رأى، فقال له: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، ثم قال: يا ليتني فيها جذعاً إذ يخرجك قومك، فقال: أو مخرجي هم؟ قال: لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي.

وقد حقق الله نبوءة ورقة بهذه الهجرة التي نحيي ذكراها كل سنة.

وهذا هو حكم التاريخ وعلم النفس في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا يا إلهي بعض جهادي في نصر دينك أشكو إليك ما ألقاه بسببه من أذى، وهو لذتي في هذه الدنيا إذا

<<  <  ج:
ص:  >  >>