للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أوتيه من النجاح في علاج المرضى الذين كانوا يفدون إليه من فجاج الأرض، وله في ذلك كثير من النوادر العجيبة التي تناقلها الرواة والمؤلفون.

ثم لما بلغ صاحب الترجمة الثانية والعشرين من عمره نكب بوفاة والده فانتابته بعد ذلك الشدائد، وزاد في محنته وأهواله أن اضمحلت الدولة السامانية وكانوا حماته الذين تعهدوه بالرعاية والتشجيع، فخرج من مملكة بخارى قاصداً (كركانج) عاصمة (خوارزم) التي كان يحكمها الأمير علي بن مأمون، غير أن الضيق لازمه فتنقل في البلاد شريداً ثم ألقى عصا الترحال في (جرجان) حيث كان يقصد أميرها (قابوس) الذي اشتهر بتأييده للعلماء فصادف وصوله سقوط قابوس عن عرشه وحبسه في بعض القلاع وما لبث أن مات، فتألم ابن سينا لذلك ألماً شديداً وأنشأ قصيدة قال فيها:

لما عظمت فليس مصرٌ واسعي ... لما غلا ثمني عدمتُ المشترى

ثم هام على وجهه في الآفاق إلى أن وصل أخيراً إلى (حمدان) ودخل في خدمة أميرها شمس الدولة وعالجه علاجاً ناجحاً إذ كان يشكو من مرضاً شديداً بالمعدة، فأحسن الأمير صلته وقلده الوزارة ولم تمنعه أعمال الدولة ومهام المنصب عن مواصلة نشاطه الطبي وأبحاثه العلمية، فألف في ذلك الوقت الجزء الأول من كتابه الأشهر (القانون في الطب)، وكان يقضي النهار في مباشرة شئون الدولة ويحي الليل بالمحاضرة والتدريس وإملاء المذكرات على تلاميذه، فإذا انتهى من محاضرته استبقى مستمعيه وهيئ مجلس الغناء والأُنس والموسيقى ترويحاً للنفوس من عناء الدرس.

على أن هذه الحياة الحافلة بالعلم والعمل والنشاط ما لبثت أن عصفت بها رياح الفتن السياسية ودَّس أعداء صاحب الترجمة له واتهم بأن له صلة سياسية وثيقة بأمير أصفهان وسجِن في أحد القلاع وهناك لازم التأليف. ثم إنه أفلح أخيراً في الفرار من سجنه بعد أن تنكر في زي الصوفية وقصد أصفهان حيث استقبله أميرها بكل أنواع الحفاوة والإكرام وصار موضع إكبار الجميع وصحب السلطان في كثير من غزواته إذ كان طبيبه الخاص ووزيراً للدولة وعكف على إنجاز مؤلفاته العديدة في مختلف العلوم وفي مقدمتها كتابه (القانون في الطب) الذي أذاع اسمه وخلّد شهرته في الشرق والغرب مدى ستة قرون، ودوّن كتبه في الفلسفة والفلك وعلم النفس وفقه اللغة والعلوم الطبيعية والكيماوية وغيرها،

<<  <  ج:
ص:  >  >>