ولم ينقطع برغم هذا كله عن ممارسة مهنة الطب التي فاق فيها كل معاصريه وأوصله نبوغه فيها إلى مكانة ليس وراءها غاية.
وقد أنهكت الجهود الجبارة والعمل الشديد المتواصل قواه فمات ولم يتجاوز عمره السابعة والخمسين سنة ١٠٣٧م.
ويمتاز ابن سينا بغزارة مادته الأصلية في التأليف، وتنوع العلوم والفنون التي ترك فيها آثاراً قيمة، وضخامة كثيرة من كتبه النفيسة التي كانت بمثابة دوائر معارف شاملة.
ولا جدال في أن كتابه (القانون في الطب) - وهو أهم مؤلفاته، وأضخمها إذ يحتوي على نحو مليون كلمة - الفضل الأكبر في ذيوع تعاليم ابن سينا وآرائه الطبية في كل الأقطار، ثم في بقاء تأثيره نافذاً متسلطاً على مصير الطب في الشرق والغرب مدى عدة قرون. وقد نوه الطبيب المؤرخ الإيطالي كاستليوني في كتابه (تاريخ الطب) المطبوع سنة ١٩٣١ بأن تميز (قانون ابن سينا) على كل ما سواه من كتب الطب في العصور الوسطى راجع إلى دقة ابن سينا في الشرح والتحليل بطريقة تهذيبية تعليمية بارعة، وإلى إتقان تبويبه وتقسيمه وترتيب المواضيع الطبية التي عالجها بحيث كفى الأطباء في ذلك العصر مؤونة البحث فيما عداه).
وقد دون ابن سينا في (قانونه) كل علوم الطب إلى زمنه، ونقحها وزاد عليها آراءه وملاحظاته ومشاهداته الإكلينيكية، ويقع في خمسة كتب أساسية. وبقي هذا الكتاب يدرس في جامعات أوربا زهاء ستة قرون، واستمر المرجع الأساسي في تدريس الطب بجامعتي مونبلييه ولوفان حتى ختام القرن السابع عشر.
وترجم (القانون) إلى اللاتينية في طليطلة في القرن الثاني عشر نقله جيراردي كريمونا ثم ظهرت له بعد ذلك طبعات لاتينية أخرى تعد بالعشرات. ونشرت منه طبعة عربية في روما سنة ١٥٩٣، وفي بولاق بمصر سنة ١٨٧٧، وظهرت له في أوربا عدة شروح، كما ترجمت أجزاء منه إلى الفرنسية والألمانية والإنجليزية وغيرها من لغات أوربا، وترجم أيضاً إلى التركية والفارسية.
وقد أحصى العلامة الألماني وستنفلد من مؤلفات ابن سينا مائة وخمسة في علوم الطب والفلسفة والدين والفلك واللغة والأدب والموسيقى والهندسة والمنطق والعلوم الطبيعية