يعالجه المرء في سريرة نفسه من الشعور بالحقارة. وقد يعالج هذا الشعور وهو لا يدركه ولا يفطن له تماماً، وقد يدعي المتواضع المصاب بداء الحقارة أنه أكرم خلقاً من المتعاظم بهذا الداء. ولم نقل أن داء الشعور بالحقارة لا يظهر إلا في تلك الأمم التي ظلت مغلوبة على أمرها عصوراً طويلة، وإنما قلنا إن ذيوعه فيها أكثر، وصفاته ومظاهره أكثر تنوعاً وتعدداً، وأعراضه أشد: من حب للظهور ومن دس وكيد وحقد وحسد. ولم نقل إن الكيد والحقد والحسد والتنافر ليس لها إلا هذا السبب وإلا هذا المصدر، فلها أيضاً أسباب اخرى، ولكن إذا ظهرت الصلة بينها وبين داء الشعور بالحقارة في مثل تلك الأمة أو البيئة الموصوفة كان هذا الداء هو سببها، وحتى في حالات الأفراد المصابين بهذا الداء في بيئة سليمة منه قد تظهر صلات هذه الصفات بداء الشعور بالحقارة ظهوراً ليس مثله ظهور. أما في البيئات الموبوءة فليست الصعوبة في معرفة صلات هذه الصفات والمظاهر بالداء، وإنما الصعوبة في حصرها وعدها ولم شعثها وتشعبها تشعباً عظيماً؛ وهذا التشعب والتفرع قد يبعدها عن اصلها لكثرة الفروع وفروع الفروع حتى يخيل للرائي أن لها أسباباً أخرى غير داء الشعور بالحقارة الذي هو منبتها وجذرها وجزعها في تلك البيئة، فتتكاثر صفاتها أمام الباحث تكاثر الظباء على خراش. على أن العقل لا يجد صعوبة في أن يفهم منشأ هذا الداء التي ظلت مغلوبة على أمرها عصوراً طويلة تشعرها الذلة والمسكنة، ثم جاءت الحرية. ومن لوازمها أن يخفى الحر ما يشعر به من صفات متوارثة أو غير متوارثة، وهذه الرغبة في إخفاء ما في نفسه من داء الشعور بالحقارة قد تصير داء يتلمس كل وسيلة شريفة أو دنيئة، وقد يشرف بصاحبه على الجنون أو يبلغه، وقد يدفع إلى الجرم. وفي اعتقادي أن مباهاة التعس للتعس من فقراء الفلاحين مباهاة ربما دعت إلى الجرم الإثم من اجل سبب تافه إنما تنشأ من هذا الداء ومن هذه المؤثرات الاجتماعية القديمة الحديثة. وكذلك حب الظهور الذي قد يؤدي بالأملاك ويؤدي إلى خراب الأسر إنما هو داء الشعور بالحقارة الخفي يبرز في شكل تعاظم مصحوب بالقلق والحقد والحسد. وهذه المظاهر تشاهد أيضاً في نفوس بعض الموظفين والطلبة وسكان المدن الكبيرة. ولابد أن نقول مرة ثانية إن صلات هذه الصفات بداء الشعور بالحقارة في بيئة اعتورها ذل ثم حرية بعد ذل طويل، صلات ظاهرة لا تنكر، وإن تلك الصفات ليست في شكلها الذي تشترك فيه النفوس