التفكير الدقيق أو جادة التفطن والتفصيل. واللغة الأصيلة واللغة الدخيلة بعد كل ذلك جديرتان أن نحسنهما قراءة ومطالعة، لأن إحسان قراءة الأولى واجب حتم، ولأن قراءة الثانية هو سبيل الاتصال بحضارة أصحابها.
وفيما أسلفنا من حديث عن آثار اللغات مواضع نتعرف منها الغاية من تعلم اللغات كل منها على حدة، فالمطالعة أو قل القراءة المستوعبة هي الغاية من تعلم اللغة الأجنبية، لأن إتقانها هو السبيل إلى فهم ما يكتب فيها، ولأننا في تعليمنا اللغة الأجنبية نرمي إلى أن نفتح للمتعلم أبواب تلك اللغة حتى يتصل بثقافتها. نحن نتعلم اللغة الإنجليزية لنقرأ مؤلفاتها، ونحن نحسن الفرنسية لكي نلم بحضارة الفرنسيين؛ وليست الفرنسية ولا الإنجليزية إحداهما ولا كلتاهما بضرورة لازمة لحياتنا العقلية أو لتربيتنا النفسية؛ وإذن فيجب أن تدور جهودنا في تعليم إحدى هاتين اللغتين حول تلك الغاية المثلى: يجب أن تدور حول المطالعة لأنها الغاية النفعية التي تحدثنا عنها. وليست الكتابة ولا الخطابة ولا تذوق الأدب بما فيه من قصص وتمثيل من شأننا في تعليم الإنجليزية، فإذا جاء كل هؤلاء فإنما يأتي بعد المطالعة لا قبلها
أما اللغة الأصيلة - وهي العربية عندنا - فينبغي أن تكون الغاية من تعليمها فوق ما ذكرت. إن القراءة جزء من الغاية التي ننشدها إذ نعلمها. نحن نعلم العربية لنخرج مفكرين يحسنون تصور الكلام ويجيدون التعبير عما في نفوسهم. بل يجب أن نعلمها حتى يتذوقوا التراث الأدبي الذي تزخر به اللغة نفسها. وأذن فدراسة العربية ينبغي أن تكون تدريباً فكرياً وتدريباً نفسياً وتدريباً عملياً أيضاً، وتتشعب هذه الأغراض وتتعقد ويكون من مظاهرها الكتابة والقراءة والخطابة. ولكل من هذه الغايات أصول تمتد إلى أعماق الفكر وتتصل بأطوار النفس
أما الأغراض التي نرمي إليها اليوم فهي قاصرة لأنها تقف عن أن تدرك كل تلك الغايات.
إن تعليم العربية عندنا يقتصر على تلقين ألفاظ غير محددة وهو يخلو من الرياضة الجمالية التي ينبغي أن نرمي إليها. أما وجهتها النفعية فهي لا تعلو إلى أن تكافئ حاجات كل يوم فضلاً عن حاجات النفس العميقة. ولا يستطيع معلم أن يقول أنه يتجه اتجاهاً فكرياً في تعليم الألفاظ ولا إنه يصطنع الدقة في تلقينها إلا قليلاً