هذا. ولاشك أن من أكثر اسباب هذا العراك سوء فهم للدين، وعدم التمييز بينه وبين علم اللاهوت التقليدي الموروث. وقد خلف لنا هذا العراك سجلات عديدة من مساجلات ومناظرات امتلأت بها رفوف عديدة بدور الكتب، ولكنها لا تجد الآن قارئا إلا دارسا متشوقاً يأتي اليها الفينة بعد الفينة، مناظرات لم تولد غير كراهات غاشمة أفسدت الأذهان وأساءت إلى التفكير الخالص في كلا المعسكرين على السواء، نظر فيها رجال الدين بأعينهم إلى الوراء، إلى السنوات الزاهرة الذاهبة حين المجد للدين وحده، والجبروت للعقيدة وحدها، والسلطان الذي لا يدافع لرجال الكنيسة وحدهم بلا منازع ولا متحدٍّ، فعز عليهم أن يسلموا كل هذا وان يعترفوا للعلم بكثير أو قليل.
على أن الخصام الذي بين العلم والدين قل في العصور الحديثة، أو على الأقل هدأت حدته، وذلك أن أهل اللاهوت تعلموا ولو في كثير من التباطؤ، وأذعنوا ولو في كثير من التلكؤ، واهتدوا أخيراً إلى التوفيق بين تعاليمهم وتعاليم العلوم الطبيعية من فلك وجيولوجيا حتى علم الحياة وكان أصعبها توفيقاً.
العلم والأخلاق
وما دام العلم يشتغل بملاحظة حقائق الوجود عن كثب، وبتدوين أحداث العالم المادي في أمانة ودقة، وما دام يخرِّج النتائج من الفروض تخريجاً صحيحاً، فقد جاز أن يصطدم بعقائد المسيحية التقليدية، وقد أصطدم فعلاً. وليس من الضروري (ما حبس نفسه في هذه الحدود) أن يصطدم بالأخلاق ما توجبه وما ترتضيه. ولكن عندما يبدأ العلم يطبق طرائقه التطبيقية على جسم الإنسان وبدنه فانه بذلك يخرج عن حدوده الأولى، ويبدأ يمس رأي الناس في أنفسهم وأعمالهم، وبدل أن يكون الخصام بين العلم والدين، يصبح خصاماً بين العلم وقانون الأخلاق العام وهو قانون يشد أجزاء المجتمع بعضها إلى بعض، كما يشد الملاط آجرَّ البناء، وعند ذلك يصبح قانونا مزعزع الأساس مشكوكا في سلطانه، ويصبح قضاؤه غير مبرم. ثم يتقاصر ظله ويتقاصر حتى يصبح عبداً للعلم خاضعا لنتائجه، مأموراً بعد ان كان آمراً؛ وعندئذ ينظر الإنسان بعين جديدة إلى الطبيعة البشرية، ويصبح الواجب البشري ذا سيطرة، ولكنها محدودة مشروطة.
وهُنا يتساءل: هل يكون للمعمل فتأوي أخلاقية خاصة يتحلل بها أصحابه من القانون