وقويت دعوة العلم بعد أن هيمن الإنسان على القوى الطبيعية فنظم عملها، وسخرها لمنفعته ورفاهيته هازئاً بما راعه من جبروتها الاول؛ ولكن ليتلقى سخريتها أحياناً وهو كظيم حينما يعاودها هذا الجبروت، وهو طبيعة فيها، فينفلت قيادها من يده وتطغى على قدرته. وبلغت هذه الدعوة أوجها في أوائل النصف الأخير من القرن الماضي بعد أن سخر البخار في وسائل النقل وإدارة الآلة، وجاء العلم (بالمعمل) يفسر الغوامض ويحلل المركبات فقويت نزعة الإنسان إلى الأخذ بما ينتجه التحليل، وصار العقل الصرف هو الميزان لديه في الحكم على كل ما يقع عليه الحس وما لا يقع، فاستنبط الفكر متأثراً (بالمعمل)، واقعية الأدب والفن، وهي النقل المجرد عن الطبيعة في المحسوس والمرئي الظاهر من الأشياء، وبذلك كمل طغيان المحسوس على ما وراء الحس
بيد أنه على الرغم من طغيان المحسوس على ما وراء الحس فإن النزعة الرمزية لم تمت في النفس، بل كانت لها يقظات خلال هذه المراحل المتوالية من التقدم الذهني، ترفع صوتها كلما راعها القصور عن إدراك كنه الحالات التي تعترضها
وما (رومانسية) الأدب والفن إلا مظهر شاحب من هذه الحالة، وهى نزعة حطمت في وقت ما القوالب والصيغ الكلاسيكية التي هي من فعل الفكر الخالص، وأرسلت من القلب خلجة إحساسية مترعة، وكان ذلك في أواخر القرن السادس عشر في إنجلترا، ثم في أوائل القرن التاسع عشر في فرنسا
وليس هذا بالأمر العجيب المستغرب، فالإنسان يحيا بغرائزه أحياناً أكثر مما يعيش بعقله الخالص. وآية ذلك أن الإنسان ما برح يخاف الموت وهو موقن بعقله أنه نهاية محتمة على كل حي
وكان بعد ذلك أن أفلس العلم في كثير من المسائل الحيوية على الرغم من اختراع الكهرباء وتنظيم شؤون الحياة، فقلل العلم من غلوائه في تفسير كل شئ، وأخفت من صوته في دعواه الكشف عن كل غامض، وسرعان ما استيقظت نزعة الرمز من جديد، وبرز لها طابع في أدب أهل الشمال من أوربا، وهم قوم يسكنون بلاداً يخفى الضباب معالمها في وضح النهار، وتطغي قتمة السحب على زرقة السماء طوال العام إلا أشهراً معدودة