الرئيس أن يهيئ له منصباً ثم يزيد فيطلب منصباً معينا لا يلبث أن ينافسه في السعي إليه آخرون حتى يفلت من يده، ويريد الرئيس أن يجامله فيعرض عليه منصباً غيره؛ ولكن زوجه تقف بينه وبين هذا المنصب، وتصر على موقفها معلنة أنها لن تقبل لزوجها عملا يعود بهما إلى الأدغال حيث كان مقر ذلك العمل واحدا من تلك الأصقاع الداخلية؛ ويرفض ابراهام المنصب آخر الأمر. وهكذا نرى زوجه للمرة الثانية حريصة على أن توليه القبلة التي لا ترضى له غيرها قبلة. . .
وكانت المحاماة وظيفته الطبيعية إذا فرغ من السياسة إلى حين؛ فما باله يريد أن يتنكب طريقه ويستبدل بعمله عملا آخر لا يتصل بطبعه ولا يستقم مع خلفه؟ ما باله يريد أن يحيد عن الغاية وقد قطع في سيره إليها شوطاً ليس باليسير؟ ترى ماذا كان يحدث لو أنه كان غير وجهته واخذ له غاية غير غايته؟ ولكن الدهر يضمن به ويدخره لغد ويأبى أن يغير تاريخ قومه بطمس رسالته. . .
عاد من السياسة إلى المحاماة عودة ظن الناس معها أنه يقرب السياسة بعد ذلك؛ وكان قد ترك العمل كله لصديقه هرندن؛ وهو اليوم في المحاماة أعظم خبرة من ذي قبل وأكثر معرفة بأحوال الناس وشئون حياتهم
وكان من أبرز صفاته سرعة أُلفته للمواقف الجديدة في حياته، وترك مواضيها حتى تبعثها الأسباب. لذلك أقبل على المحاماة إقبالا لا يظن امرؤ معه أن قد كانت له صلة بمهنة سواها، وكأن العمل في السياسة لم يكن إلا عارضاً مر وانقضى فليس إليه رجعة. . . هذا والسياسة مستكنة في نفسه ومعضلة العبيد في أعماق وجدانه تنتظر أول صيحة لتبرز من جديد وهي أعظم قوة واشد وضوحا واكثر اقتراباً من الغاية. . .
وضاق ابراهام ذرعا بما تثيره زوجه من عوامل الشقاق فهي ما تفتأ تريه التبرم والسخط وتأخذ بألوان من العنف يوشك أن ينفذ لها صبره ويطيش حلمه، لولا أنه يعود بالسبب على مزاجها الحاد؛ وإن كان ليسأل نفسه بين حين وحين أهي مغضبة عليه حانقة لما أصاب من فشل في السياسة، فما تزال تتعلق بأوهى الأسباب لمجادلته ومغاضبته وقد صغر في عينها وهان لديها شأنه؟. . . ولكنه يحس من زوجه أنها على شغفها بتعنيفه تضمر له المحبة والإعجاب كعهده بها فيطمئن قلبه ويرد الأمر في هذا الشقاق إلى ما يعرف من طباعها