والصناعة نستطيع أن نهبط إلى أغوار تلك النفوس الرحبة الغنية، كما
يهبط الغواص فجأة إلى أعماق البحار، فيفاجئ اللآلي في أصدافها لم
تمسها بعد يد غريبة، تنتزعها لتدخل عليها بهرج الصاغة. إن الفنان
إذ يحدثنا عن نفسه وفنه وحياته الخاصة إنما يقدم لنا مادة فنية غير
مصنوعة. إنه يترك رداءه الرسمي ليخرج إلينا بثياب البيت في غير
كلفة كأنه صديق، وهذا منتهى الإخلاص منه ومنتهى التكريم لنا.
توفيق الحكيم
مظاهر القسوة والرحمة في الحضارات
للأستاذ عبد الرحمن شكري
أشرت في مقالة (مجد العرب والإسلام) إلى محاولة بعض المؤرخين الأوروبيين أصفار مظاهر القسوة في الحضارات الأوربية وإعظامها في الحضارات الشرقية. ولسنا نريد أن ننكر مظاهر القسوة في الحضارات الشرقية، وإنما نريد ألا يكون هناك لبس، وألا تختفي الحقيقة التاريخية، وهي أن الحضارات الأوربية لم تكن مظاهر القسوة فيها أقل من مظاهرها في الحضارات الشرقية. فكل تمثيل قرأنا عنه في حضارة شرقية قرأنا مثله في الكلام عن الحضارات الأوربية. ولا يمكن تقصي كل مظاهر القسوة في الحضارات؛ ولا يفيد الإنسانية إخفاء الحقيقة، والمؤرخون الذين يخفونها قد يفعلون ذلك بحسن نية لأنهم يغالطون أنفسهم فيكونون كمن يجهل الحقائق وإن كانت ماثلة أمامه. وهذه ظاهرة كثيراً ما تشاهد في الحياة فيحسبها الناظر سوء نية وكذباً متعمداً وما هي كذلك، وإنما هي المغالطة للنفس التي تجعل المؤرخ يفرق بين النفوس البشرية ونزعاتها في الشرق، وبين النفوس البشرية ونزعاتها في الغرب. كما يفرق المؤرخون في بعض الأحايين بين العقول البشرية وملكاتها وطرق تفكيرها في الشرق وبينها في الغرب، ويبالغون في اختلاف طرقها بحسن نية، وإن كانت المبالغة خطأ في البحث والاستقراء