كنا نقرأ عن الحضارة الإغريقية أنها منبع الرحمة والنور في العالم القديم والحديث؛ وكان بعض المؤرخين لا يسهبون في وصف مظاهر القسوة فيها، وإن كانت موصوفة في مراجع التاريخ، وإنما هم يهملون وصفها عند إثبات أن الحضارة الإغريقية منبع الرحمة والنور في العالم، فلا يذكرون أن تلك الحضارة كانت مؤسسة على عرق جبين الأرقاء ودمائهم، ويهملون ذكر ما كان يحدث في المحاكم الإغريقية إذا ادعى أحدهم دعوى على رجل وأنكر هذا الرجل الدعوى وجئ بالأرقاء الذين يملكهم هذا الرجل المنكر وعذبوا بأصناف من العذاب القاسي الشنيع كي تؤخذ اعترافاتهم وهم يعذبون حجة على سيدهم. وكان السيد إذا اعترض على تعذيب أرقائه عُدَّ معترفاً أو شبه معترف بخوفه من أن يبوح أرقاؤه وهم يعذبون بما يؤدي إلى إدانته. ومن أمثال تلك القسوة في الحضارة الإغريقية ما كان يلاقيه الأرقاء في المحاجر والمناجم، ومثلهم مثل الأرقاء في مناجم الرومان. ويكفي وصف ما لاقاه جنود أثينا الأسرى عندما حاولوا غزو سراقوسة في صقلية وفشلوا واستخدموا في المحاجر والمناجم أرقاء. ومن مظاهر القسوة أيضاً معاملة المدينة الظافرة للمدينة المغلوبة على أمرها إذا ثارت على سيدتها، فقد كانت المدينة الظافرة تقتضي في بعض الأحايين بقتل جميع الرجال وبيع الأطفال والنساء في سوق الرقيق. وهذه المعاملة تذكرنا بما كان الإغريق في العصور الحديثة يشنعون به على الأتراك ومعاملتهم لرعاياهم من الإغريق؛ إلا أن تلك المعاملة القاسية القديمة كان يعامل بها الإغريق الإغريق. وحتى في المدينة الواحدة كان الحزب السياسي إذا ظفر عامل الحزب المخاصم له أشنع معاملة. وهذا كان حال الحضارة الإغريقية التي كانت بالرغم من ذلك المنبع الرحمة والنور في تاريخ الحضارة الأوربية. فإذا انتقلنا إلى حضارة الرومان وجدنا أن مظاهر القسوة لم تكن اقل منها في الحضارة الإغريقية، فكان الأرقاء يعاملون معاملة قاسية بالرغم من القوانين التي أصدرت لحمايتهم. وكانت الأحزاب السياسية يقسو بعضها في معاملة بعض قسوة شنيعة. وكان الظفر الحربي الروماني نذير القسوة الشنيعة حتى بعد ذلك الظفر عند الاحتفال به وبعد الاحتفال به. وكانت الخوازيق التي يُعيرُ بها الأتراك والشرقيون من العقوبات الرومانية؛ وكذلك الصلب والتمثيل بالمصلوبين وهم مصلوبون. وكانت ميادين الكوليسيوم معرضاً لجنون قسوة النفس الإنسانية حتى صارت من ملذات الجمهور الروماني رؤية