بين يديّ، فإذا تمام البيت فيما كتبت وفي الكتاب سواء، لا يختلفان إلا في حرف الجر. . . أكان فضل هذا إلى ذاكرة الرافعي، أم إلى قوة بصره بالشعر وبأساليب البيان؟
ولم يكتب الرافعي في هذه الفترة التي سبقت اشتغاله بالرسالة، إلا بضع مقالات في البلاغ؛ وكان لكل مقال حافزه وداعيه:
كان السيد حسن القاياتي يكتب في جريدة (كوكب الشرق) كليمات في موضوعات شتى من وحي الساعة وخواطر الحياة. فبدا له يوماً أن يكتب في الموازنة بين قول الله تعالى:(ولكم في القصاص حياة. . .) وقول العرب: (القتل أنفى للقتل!) فانزلق إلى رأي. . . وكان محرر الكوكب في ذلك الوقت هو الدكتور طه حسين، وهو من هو عند الرفعي في دينه وفي أدبه وفي إيمانه يقدس القرآن. . . ولم يكن الرافعي يواظب يومئذ على قراءة كوكب الشرق
وجاء البريد ذات صباح إلى الرافعي برسالة من صديقه الأستاذ محمود محمد شاكر، يلفت نظره إلى ما كتب الأستاذ القاياتي وإلى ضلاله في تفضيل الكلمة الجاهلية على آية القرآن. . . ودفع إليّ الرافعي برسالة الأستاذ شاكر وهو يقول:(أتصدّق هذا؟ أيجرؤ أحد أن يقولها، أم هي مبالغة وتهويل من محمود؟ أم هو لم يفهم ما كتب الكاتب المسلم وحمل كلامه على غير ما يريد؟)
ثم بعث في طلب الجريدة التي نشرت هذه الضلالة فجيء بها. فما كاد يقرؤها حتى اربدّ وجهه وبدا عليه الغيظ والانفعال، ودار لسانه بين شدقيه بكلام، ثم لم يلبث أن نهض مغضباً إلى الدار قبل موعده، فانقطع عني يومين ثم أرسل يستدعيني إليه، فأملى عليّ مقالة طويلة بعنوان:(كلمة مؤمنة في رد كلمة كافرة!)
وكانت مقالة من عيون مقالات الرافعي، نشرتها البلاغ في صفحتها الأدبية. وقد أورد فيها بضعة عشر رأياً في بيان إعجاز الآية ومبلغها من البلاغة بازاء الكلمة الجاهلية، وقد جعلها من بعدُ فصلاً من شواهد كتابه (أسرار الإعجاز) الذي لم يطبع بعد. . .
وقرأ الأستاذ القاياتي مقال الرافعي في الرد عليه، فاقتنع بها فيما بينه وبين نفسه، واعترف على نفسه في خلوته، ولكنه لاذ بالصمت، وكانت كرامته الأدبية أعز عليه من كرامة القرآن، فلم يردّ عليه ولم يعترف علانيةً بما كان من خطئه فيما انزلق إليه. .!