لم يُنشر للرافعي في هذه الفترة شيء ذو بال، إلا أحاديث كان يمليها على بعض المرتزقة من كتاب الصحف الأسبوعية. وكان له طائفة من هؤلاء الكتاب يعطف عليهم ويعينهم على العيش، فكانوا يفدون إليه في المحكمة ليسألوه حديثاً فيملي عليهم جوابه ثم يذهبون لينشروه حيث يشاءون ويقبضوا أجره
في هذه الفترة، وكَلَ إليه الأديب حسام الدين القدسي الورّاق تصحيح كتاب (ديوان المعاني) لأبي هلال العسكري، وكان قد وقع منه على نسخة خطية فطبعها بأغلاطها وتصحيفها، ثم بدا له قبل أن يتم طبع الديوان أن يلجأ إلى الرافعي ليصحح أغلاطه ويتم نقصه على أن ينشره في الجزء الأخير من الكتاب
وقبِل الرافعي هذا التكليف على قلة أجره، ليقرأ الكتاب قبل أن يقرأه الناس، وليستمتع بلذة المعاناة في تصحيحه وتصويب خطئه؛ وإنها لرياضة عقلية ممتعة، لا يستشعرها ولا يقوي عليها إلا القليل من الأدباء. ومضى في هذا العمل شهراً أو يزيد، وكنت معه فيه، ثم انتكثت المعاهدة التي كانت بينه وبين القدسي فترك له كتابه بعد أن أصلح منه جزءاً غير قليل. وقد استطعت في تلك الفترة التي صحبت فيها الرافعي وهو يحاول تصحيح الكتاب أن أعرف مقدار اطلاعه وسعة علمه وقوة بصره بأساليب العربية؛ وقد رأيت منه في هذا الباب أشياء عجيبة من قوة الحافظة، وسرعة الاهتداء إلى مراجع البحث، ومهارة الاستدلال على مواضع النقص، حتى لكأنني بازاء مكتبة دقيقة الترتيب منتظمة التبويب ما شئت من بحث هَدَتْك إليه قبل أن تبحث عنه. على أنه كان أحياناً يعرف موضع النقص من الكتاب ثم لا يهديه البحث إلى تتمته، فيضع فكره موضع فكر المؤلف ليستقيم المعنى ويتساوق الكلام وأكثر ما كان يقع ذلك في الشعر المشطور. وقد حدث مرة أن ظلّ الرافعي يبحث يوماً كاملاً عن تمام بيت من الشعر في مظانه من كتب العربية؛ فلما أعياه البحث جعل تمامه من نظمه ثم مضى إلى تصحيح ما بعده من الكتاب. وفجأة ترك ما هو فيه وقال:(اسمع! ناولني الكتاب الفلاني) فمددت يدي إلى موضعه من المكتبة فناولته إياه، فأخذ بتصفحه قليلا ثم قال:(لقد وجدته. . . هذا هو البيت الذي كنت ابحث عنه وتمامه. عد إلى ما كتبت من قبل لتصححه!) وعدت إلى ما كتبت، ورجعت النظر في الكتاب الذي