القلع. فما زلنا نصعد حتى لاح لنا الموسم جميعه، وزويت لنا أطرافه؛ فيالك مشهداً جميلاً رائعاً! فهذا مسجد الخيف وهو مسجد بري معطل من الزينة وفراشه الحصباء: بناء كبير تحيطه جدران مديدة بيضاء، يتوسط صحنه الفسيح مصلى عليه قبة ومنارة، وفي جانبه القبلي سقيفة على ثلاثة عقود. وقد راقني منظره من سفح الجبل تتجلى فيه فطرة الإسلام وطبيعة البداوة
وهذا المحصب عن شمالنا حيث العقبات الثلاث التي ترمى فيها الجمرات. والى اليمين يمتد وادي منى بين سطرين من الجبال الشاهقة يساير فيه الطرف أسراب الخيام إلى أن يكل. وهناك تبدو دار الملك عبد العزيز التي ينزلها أيام الموسم. وهنالك بناء أبيض يلوح بين الأشجار هو (السبيل) المصري: مورد عذب يستقي منه الحجاج، يزدحمون عليه النهار كله وطرفاً من الليل. وإنها لمبرة عظيمة
وأما الجبل الشامخ الذي يمتد على جانب الوادي الأيسر فهو ثبير. وكم ردد التاريخ والشعر ذكر ثبير!
ترادفت الذكر وتوالت العبر في هذه البقعة المقفرة التي تخصب بالجماعات كل عام منذ عهد الجاهلية، فكأني بالقبائل تلتقي تتناشد الأشعار، وتتفاخر بالاحساب، ويضعون عنهم العداوة والحرب إلى حين، وقد تغلبهم الضغائن فيفجأ بعضهم بعضاً غير مراعين حرمة الشهر والمكان كما أغارت هوازن على خزاعة بالمحصب من منى فقال أحد بني عدوان:
غداة التقينا بالمحصَّب من منى ... فلاقى بنو العنقاء إحدى العظائم
وكأني بهم ينحرون ويذبحون ويضيفون ويطعمون، ويشرقون بقايا اللحم على سفح الجبل.
وكأني بفتيان قريش وشعراء مكة في الجاهلية والإسلام يقضون حق المكارم والفتوة؛ يضيفون ويطعمون ويشيدون بالمفاخر ويتناشدون الشعر ويتناقلون الأخبار، وينزع بهم الشباب فيتغزلون ويرون في الموسم على جلاله وحرمته شملاً من الأحباء يجتمع، وشملاً يفترق، فيشيد الشعر بفرحة اللقاء ولوعة الفراق، فهذا عمر بن أبي ربيعة يقول:
نظرت إليها بالمحصَّب من منى ... ولي نظر لولا التحرج عارم
فقلت: أشمس أم مصابيح بيعة ... بدت لك خلف الستر أم أنت حالم
بعيدة مهوى الفُرط إما لنوفل ... أبوها وإما عبد شمس وهاشم