موضوعاً كل أسبوع، راح يلتمس الموضوعات التي تصلح أن يكتب فيها للرسالة. وكان يضيق بذلك ويتحير، ثم لم يلبث أن تعودها، فكان يرسل عينة وراء كل منظر، ويمد أذنه وراء كل حديث، ويرسل فكره وراء كل حادثة، ويلقي باله إلى كل محاورة، ثم يختار موضوعه مما يرى ويسمع ويشاهد ويحس، ثم لا يبدأ أن يجمع له فكره ويهيئ عناصره إلا أن يجد له صدى في نفسه، وحديثاً في فكره، وانفعالاً في باطنه. وكثيراً ما كان يعرض له أكثر من موضوع؛ وكثيراً ما كان يرتج عليه فلا يجد موضوعه إلا في اللحظة الأخيرة، واللحظة الأخيرة عنده قبل موعد إرسال المقال بثلاثة أيام!
فمن ذلك، ومن خشية الارتاج والحرج، كان دائماً في جيبه ورقات، يكتب في إحداها عنوان كل ما يخطر له من موضوعات الأدب، ليعود إليها عند الحاجة؛ ويتخذ الورقات الباقية مذكرة يقيد فيها الخواطر التي تتفق له في أي من هذه الموضوعات أين يكون. وبلغ بذلك أن يجتمع عنده في النهاية ثبت حافل بعناوين مقالات لم يكتبها ولم يفرغ لها باله، وورقات أخرى حاشدة بخواطر ومعان شتى في أكثر من موضوع واحد، لا تربط بينها رابطة في المعنى ولا في الموضوع. ومن هذه الورقات، ومن فضلات المعاني في المقالات التي كتبها وفرغ منها - كان يختار (كلمة وكليمة) التي كان ينشرها في فترات متباعدة من الرسالة كلما وجد حاجة إلى الراحة من عناء الكتابة. فهذه الكلمات هي إحدى ثلاث: خواطر مبعثرة كان يلقاها في غير وقتها، أو عناوين موضوعات لم تتهيأ له الفرصة لكتابتها، أو فتات من مقالات كتبها وفرغ منها وبقيت عنده هذه المعاني بعد تمام الكتابة إذ لم بجد لها موضعاً مما كتب
وبسبب أنه كان يقيد عناوين الموضوعات التي كان يختارها ليكتبها في وقتها، كان يعد قراءه أحياناً بموضوعات ثم لا يكتبها ولا يفي بما وعد، لأنه لا يملك منها إلا عنواناً في ورقة بيضاء؛ ومن ذلك مقالة (الزبال الفيلسوف) التي وعد أن يكتبها حين أنشأ للرسالة قصة (بنت الباشا) ثم مضت ثلاثة أعوام ووافاه الأجل وما تزال مقالة الزبال عنواناً في رأس ورقة تحته نثار من الخواطر والمعاني التي كان يدخرها إلى يومها المؤمل!
ولقد وجدت على مكتبه في طنطا غداة نعيه كثيراُ من هذه الورقات، تشير إلى كثير من أمل الأحياء والى كثير من خداع الحياة. . .!