عجب أن تنمو الفلسفة وتزهر، وتستقر قواعد الطبيعيات والطب، ويتسع خيال الشعراء، ويظهر الشعر الفلسفي، وينمو فن التاريخ والجغرافيا، ويظهر النقد الأدبي، وتؤلف القصص المجازية، وتنتشر المكاتب حاوية لألوف المخطوطات) أجل ولا عجب أن يظهر أمثال ابن سينا وابن مسكويه والهمذاني والخوارزمي، والمتنبي وأبي فراس والأصفهاني والقالي والثعالبي والتوحيدي والصابي والشريف الرضي والتنوخي والطبري
على أن الحالة الخلقية لذلك العصر لم تك لتساير الحالة العلمية رقياً ونجاحاً. ويلوح ذلك في ميكيافيلية السياسة وعبث الكبراء والعظماء على السواء. وما بالك بحكم قاس عنيف يصلب ويثمل ويبتر ويستمع للوشايات والدناءات، وتمتد يد بطشه وغدره إلى الوزراء والأمراء والسلاطين القريب منهم والبعيد؟ وما بالك بعظماء وكبراء يقول (الثعالبي) في أحد مجالس لهوهم: (أنهم أخذوا بفن من الانخلاع عجيب، وبطريق من الاسترسال رحيب!؟) ويقول في مجلس آخر:
فكان الذي لولا الحياء أذعته ... ولا خير في عيش الفتى إن تسترا!
وفي مجلس ثالث:
(ولم نزل نشرب الراح إلى أن باح الصبح بسره، وقام كل منا يتعثر في سكره!؟)
٢ - حياته
وعسير جداً أن نتلمس حياة ابن مسكويه فيما ترك من كتب أو فيما ذكر عنه الكتاب والمؤرخون. وكل ما قد استطعنا كشفه من المؤلفات والتراجم العديدة التي اطلعنا عليها هو أنه ولد حوالي عام ٣٣٠هـ ومات في ٩ صفر سنة ٤٢١هـ (١٦ فبراير سنة ١٠٣٠م)، وكان مولده (بالري) في أسرة فارسية شريفة. وسرعان ما يترك والده أمه فيبقى هو راعياً لها حتى تتزوج بغير أبيه فيتركها وينزح إلى بغداد شاباً. وهناك يتصل بالوزير (المهلبي) حوالي سنة ٣٤٨هـ ويدخل في خدمته ككاتم لسره، ويبقى إلى جانبه ينادمه ويسامره حتى عام ٣٥٢هـ وهو عام وفاة الوزير؛ ومن ثم يعود إلى الري حيث يلتحق بخزانة الوزير العظيم (ابن العميد) وينال ثقته ومحبته وصداقته، ويبقى معه حتى عام سنة ٣٦٠هـ لينتقل بعد وفاته إلى خدمة ولده الوزير (أبي الفتح). وقد بقي في خدمة هذا الشاب حتى تنكر له الدهر ودخل الوزير السجن سنة ٣٦٦هـ. ثم التحق بعدئذ بخدمة الملك الظافر (عضد