للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الله البحري) من نفحة دينية عميقة، تجعل لها مقاماً خاصاً بين قصص (ألف ليلة)

فهذا رجل معدم كثير العيال تقول القصة بأنه لا يمتلك إلا شبكته، يروح بها كل يوم إلى البحر. فإن اصطاد قليلاً باعه وأنفق على أولاده بقدر ما رزقه الله. وإن اصطاد كثيراً (طبخ طبخة طيبة، واشترى فاكهة، ومازال يصرف حتى يأتي على آخر ما معه وهو قائل في نفسه: رزق غد يأتي غداً) ويوم تضع زوجته مولودها العاشر يخرج على بركة الله تعالى إلى البحر (على بخت هذا المولود الجديد) فتقول له امرأته (توكل على الله)

يمارس هذا الرجل الفقير وزوجه إذن فضيلة من الفضائل الدينية بإيمان كامل. ولكن التجربة في الولد العاشر كانت شديدة الوقر على الصياد. فقد مضى عليه أربعون يوماً لا يجد في شبكته رزقاً.

وهنا تنتقل بنا القصة إلى طبقة اجتماعية أرقى قليلاً من طبقة الصياد. وتقدم لنا مثلاً جديداً من أمثلة الطيبة والورع في صاحب المخبز الذي يتكفل بأود الصياد وأسرته أربعين يوماً دون تذمر وفي لباقة مؤثرة إذ يؤكد للصياد أنه لا يعطيه إحساناً. بل هو محاسبه يوماً على ما قدم خبز وعشرات فضة، ولكن عندما يأتيه الخير، لا قبل ذلك. ولندع القصة نفسها تتكلم، فتفصح لنا عما انطبعت عليه نفس هذا الخباز من الخير:

(ووقف الصياد ينظر ويشم رائحة العيش السخن. فصارت نفسه تشتهيه من الجوع. فنظر إليه الخباز وصاح عليه: تعال يا صياد. أتريد عيشاً؟ فسكت. فقال له: تكلم ولا تستح فالله كريم. إن لم يكن معك دراهم فأنا أعطيك، وأصبر عليك حتى يجيئك الخير)

ثم انظر إلى امرأة الصياد يشكو لها زوجها أمره مع الخباز فتقول له: الحمد لله الذي عطف قلبه عليك. هل آذاك بكلام؟ فيجيبها: كلا، وهو يقول لي دائماً، انتظر حتى يأتيك الخير. وأنا أسألك، متى يجيء الخير الذي نرتجيه؟ ويكون رد الزوجة: الله كريم. فلا يتردد الصياد في القول: صدقت. ويحمل شبكته إلى البحر في اليوم الأول بعد الأربعين.

فإذا بها تصيد حماراً ميتاً (منفوخاً ورائحته كريهة) فيقول (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) ثم يكاد إيمانه يتزعزع وهو يخاطب نفسه (قد عجزت وأنا أقول لهذه المرأة، ما بقي لي رزق في البحر، دعيني أترك هذه الصنعة. وهي تقول: الله كريم سيأتيك بالخير. فهل هذا الحمار الميت هو الخير؟)

<<  <  ج:
ص:  >  >>