للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كأن عبد الله البحري أحد الأدلاء يشرح للسائح عبد الله البري ما تقع عليه باصرته تباعاً

وبرغم هذا الأسلوب الواقعي، يلقي علينا المؤلف درسه الديني من طرف خفي. ويظهرنا على قدرة الخالق بما يسرده علينا من وصف أنواع غريبة من المخلوقات. وإذ يبدي عبد الله البري عجبه لكثرتها، يجيبه عبد الله البحري (وأي شيء رأيت من العجائب. أما سمعت المثل القائل: عجائب البحر أكثر من عجائب البر؟). وهذه حقيقة لا مغالاة فيها، يعرفها كل من درس علم الأحياء

ويدخل الصديقان مغارة عبد الله البحري. وهنا منظر عائلي كله أنس وبهجة. تأمل كيف تتندر الأسرة بالضيف (الأزعر) وانظر إلى دخول ولدي صاحب البيت (وفي يد كل ولد فرخ سمك يقرش فيه كما يقرش الإنسان في الخيار)

فهذه القصة اشتملت على عناصر كثيرة تجعلها في رأيي من أحسن قصص (ألف ليلة وليلة) بل ومن أفضل القصص في آداب العالم. كتبت بأسلوب واقعي يتجنب فيها الكاتب الارتفاع الشعري. وصاحب القصة مع هذا يتدرج بك من عالم الواقع حيث الصياد كثير العيال يكدح لكسب قوته وقوتهم، إلى عالم بين الواقع والخيال حين يقع عبد الله البحري في شباك عبد الله البري، إلى عالم كله خيال حين ينزل الصاحبان إلى أغوار البحر يتجولان في أرجائه دون أن يغير في أسلوبه كأن الأمر عادي، وكأن الصاحبين غادرا البصرة أو مسقط إلى بلاد السند أو زنجبار

والكاتب في هذا لا يغفل عن غرضه الفلسفي الأول: قدرة مبدع الكون، وقوة الإيمان، والخضوع لأحكامه. ومع أنه لا ينسى أن يميز الإنسان على سائر المخلوقات كما رأينا، إلا أنه يلقي عليه درساً كبيراً تختتم به القصة. ذلك حين يغضب عبد الله البحري إذ يسمع بأن الإنسان يبكي موتاه، وهم في البحر يفرحون إذا ما استرد الله أمانته، أي (الروح التي أودعها الجسد).

لا مراء إذن في أن قصة (عبد الله البري وعبد الله البحري) من أولها إلى آخرها تختلج بروح ديني عميق تميزت به عقائد أهل الشرق عن عقائد أهل الغرب. هو روح استكانة المخلوق للخالق، واعتباره الخضوع لأحكامه صورة مثلى للإيمان

ولسنا في حاجة أن نعرف إذا كان صاحب القصة قصد إلى ذلك أو لم يقصد. فأمامنا القصة

<<  <  ج:
ص:  >  >>